الحداثة العربية‏..‏ رؤية نقدية
الأحد, 22-مارس-2009
أنور مغيث -

صار مفهوم الحداثة شائعا ومتداولا بل وفرض نفسه كإشكالية علي الساحة الفكرية في العالم كله‏.‏ ولعل كثرة استخدامه هي التي تجعله مفهوما متعدد الدلالات‏.‏ ولن يفيدنا الرجوع إلي الأصل اللغوي ولا إلي المعاجم للوقوف علي دلالة محددة له‏.‏ ولكن يمكننا أن نتتبع سياقات الاستخدام للإحاطة بما يتضمنه هذا الموضوع الواسع من معان وإيحاءات‏.‏

لقد كانت الصفة‏'‏ حديث ‏'Modern‏ بصورة بسيطة وتلقائية دون أن تثير أي اهتمام خاص‏,‏ وكان من الممكن في هذا الإطار التمييز بين أنصار الحديث وأنصار القديم في أي مجال من المجالات‏.‏ ولكن بدا الأمر مبهما وكثيفا وإشكاليا حينما شرع الشاعر الفرنسي بودلير في استخدام المصدر‏modernisme‏ كتعبير عن مذهب معين يسمي به مفهومه الطليعي للأدب والفن ليصبح بذلك صيحة حرب عامة ضد معايير الأدب والفن المستقرة‏.‏

ثم انتقل بعد ذلك مفهوم الحداثة من مجال الأدب والفن إلي مجال فلسفة التاريخ والتي مالت إلي إستخدام المصدر‏Modernit‏ لتشير إلي حقبة معينة تختلف بصورة جذرية عن سابقتها‏.‏ وتعد فلسفة هيجل‏,‏ التي تنظر إلي التاريخ الكوني بوصفه خطا صاعدا مقسما إلي حقب تتوالي اللاحقة فيها أكثر تطورا من السابقة عليها‏,‏ خير تعبير عن هذا المفهوم التاريخي للحداثة بالرغم من أن هيجل لم يستخدم المصطلح‏.‏ وقد اقترنت الحداثة في هذا الإطار بمفهوم التقدم الذي يعد هو نفسه من المفاهيم الحديثة في فلسفات التاريخ‏.‏ وفي هذا المجال يتم اعتماد بدايةالعلم الطبيعي الحديث وفلسفة ديكارت وفن عصر النهضة الإيطالي بداية للحداثة‏.‏

أما المجال الثالث الذي ارتبط به موضوع الحداثة فهو علم الاجتماع الذي يدرس تحت هذا المسمي التغيرات الحادثة في العلاقات البشرية وتنظيم الحياة وبنية المؤسسات‏.‏ وهنا تعتبر الثورة الصناعية هي البداية‏.‏ الحداثة إذن تتطلب نوعا من الوعي التاريخي باختلاف المرحلة الحالية عن سابقتها أو كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي رولان بارت‏'‏ الانفصال عن الذي لم يعد ممكنا‏',‏ كما أنها اسم يطلق علي كل نزوع يسعي إلي الاهتمام بالحاضر وتعقله في مواجهة الماضي‏.‏ ولكن ينبغي أن نفهم أن الحاضر هنا لا يعني اللحظة الراهنة‏,‏ فالحداثة لحظة ممتدة تجمع في داخلها ماضيا قريبا وأفاقا للتطور‏.‏

هذا المشروع تحيط به صعوبات شتي‏.‏ فليس هناك تحديد واضح لدي المفكرين لمعني الحداثة‏.‏ فهو مصطلح يتخذ دائما معني مغايرا بحسب المجال الفكري الذي نتناوله فيه‏.‏ فعلي سبيل المثال في الفلسفة نبدأ تحديد الحداثة في العادة بفلسفة ديكارت العقلية التي تؤسس بأكملها علي الذات العارفة‏,‏ ولكننا في الأدب والفن نبدأ تحديد الحداثة ببودلير‏,‏ بعد ديكارت بثلاثة قرون‏,‏ بل وفي مواجهة الفكر الديكارتي العقلاني‏.‏ ولكي نعي سبب الصلة بين ديكارت والحداثة‏,‏ علينا فقط أن نلقي نظرة علي كتب الفلسفة قبل ديكارت‏-‏ سواء في الغرب المسيحي أو الشرق المسلم‏-‏ لوجدنا أنها مشغولة بقضايا محددة‏:‏ وجود الله‏,‏ خلود النفس‏,‏ قدم العالم‏,‏ الجبر والاختيار‏.‏ أما مع ديكارت ومن جاء بعده من الفلاسفة‏,‏ فالقضية الرئيسية هي المنهج الذي يكفل صدق المعرفة فكان لدينا المنهج العقلي عند ديكارت‏,‏ والتجريبي عند بيكون‏,‏ والنقدي عند كانط‏,‏ والجدلي عند هيجل‏.‏ قد يري البعض أن هذا التطور يخص الغرب وحده‏,‏ ويري آخرون أنه تطور للوعي البشري بوجه عام‏.‏ علي أي حال هوتطور حاسم في تاريخ الفلسفة‏.‏ أما الحداثة في الفن فهي تشير إلي التخلي عن بحور الشعر والقافية‏,‏ والتخلي عن المنطق الزمني للسرد‏,‏ والفصل بين الفن التشكيلي والتمثيل‏.‏

الصعوبة الأخري تكمن في كون الحداثة لم تعد محل إجماع‏,‏ يكفي أن نعلنها هدفا لنا حتي يصطف خلفه الجميع‏.‏ فهناك في الغرب‏,‏ كما في الشرق‏,‏ من ضاقوا باللهاث خلف التقدم ورضوا بحياة هادئة وبسيطة‏,‏ وهناك من حذروا من الأخطار التي تحملها الحداثة في طياتها فتهدد البيئة بل والوجود الإنساني نفسه‏.‏ وأخيرا يبدو أن الحداثة حالة معقدة ومتراكبة تمتد من سلوك المواطن في حياته اليومية إلي البناء الفوقي السياسي والقانوني‏.‏ وهو ما يجعلها ليست مشروعا بسيطا يمكن التخطيط له وقياس نتائجه‏.‏

بالرغم من كل هذه الصعوبات تفرض الحداثة نفسها علي الشعوب فرضا‏.‏ فإذا كان للحداثة أزماتها فإن إدارة الظهر لها تنتج أزمات أعمق‏,‏ وآلاما بشرية كبري‏.‏

أبعاد الحداثة‏
الحداثة إذن حالة تاريخية لا تعني مجرد المعاصرة‏,‏ ولكنها تشير إلي مرحلة تاريخية بعينها تتسم بمجموعة من السمات التي تجعل منها ظاهرة مركبة‏.‏ ويمكن من منظور معين أن نحدد لها أربعة أبعاد أساسية‏.‏ أول هذه الأبعاد هو البعد التكنولوجي والذي بدأ مع اختراع الطباعة والتي كان لها أكبر الأثر في تغير متابعة الانسان لأحداث العالم ونقل المعارف والاتصال بالآخرين‏.‏ ثم ارتبطت الحداثة بعصر انتشار الآلة والتي تختلف اختلافا جذريا مع الأداة‏.‏ هذه الأداة كان ينظر إليها دائما باعتبارها وسيلة‏,‏ حيث يبقي البشر دائما في وضع خارجي بالنسبة لوسيلة تعمل علي توفير الجهد المبذول في السيطرة علي الأشياء وتسهيل العمليات التي تهدف لإشباع الحاجات‏.‏ وهذا علي عكس الآلة التي‏,‏ نظرا لتعقد تركيبها وأدائها الوظيفي‏,‏ تعيد صياغة العلاقات بين البشر‏.‏

والبعد الثاني هو البعد الاقتصادي الذي يتجسد في نمط الانتاج الرأسمالي وما في هذا النمط من ميل بنيوي إلي التوسع عالميا وإدماج الأشكال الحضارية الأخري فيه عبر آلية السوق‏,‏ وعبر التحديات التي يطرحها علي الشعوب التي تتلكأ في تبنيه‏.‏

البعد الثالث هو البعد السياسي الذي تجسد في بزوغ الدولة القومية والتي عرفت أشكالا مختلفة للحكم وإن كان يسود اتجاه عام‏,‏ منطلق من نظريات العقد الاجتماعي‏,‏ إلي تعميم الحكم الديمقراطي الذي يعمل‏,‏ كما يري ماكس فيبر‏,‏ علي إزاحة الأشكال القديمة لشرعية السلطة مثل الشرعية الدينية والزعامية ويعطي السيادة للشرعية الديمقراطية‏.‏

البعد الرابع هو البعد الفكري الذي يرتبط بسيادة العقلانية في تفسير العالم وإدارة المجتمع‏,‏ كما يرتبط بمركزية الذات الإنسانية كأساس للمعارف والقيم‏,‏ وهو الاتجاه الذي وجد أقصي تجلياته في فكر عصر التنوير‏.‏

وترتبط بالحداثة أيضا تجليات أخري أخلاقية وجمالية ولكنها أقرب إلي أن تكون نتائج أكثر منها أبعادا مكونة لظاهرة الحداثة‏.‏

نحن هنا إذن أمام أبعاد أربعة يمكن رصدها في أي مجتمع من المجتمعات وهي‏:‏ المستوي التكنولوجي‏,‏ والاقتصاد المرشد والسياسة القائمة علي التمثيل ومشاركة المواطنين‏,‏ وأخيرا حرية الفكر والاعتقاد‏,‏ مع اعتبار العقلانية هي المرجعية النهائية التي تضفي الشرعية علي الأحكام‏.‏

كونية الحداثة‏
الحداثة وضع تاريخي تحقق بفعل مسار التطور في المجتمع الغربي‏.‏ لكنها الآن ظاهرة عالمية أو بسبيلها لأن تصبح كذلك‏.‏ فهل كانت الحداثة نموذجا فرضه الغرب فرضا علي شعوب خضعت لهيمنته‏,‏ أم كانت اختبارا حرا من قبل هذه الشعوب يحيلنا هذا السؤال إلي فلسفة التاريخ التي تعلمنا مدارسها المختلفة أن التاريخ لم يكن يوما مجالا لتحقيق الإرادات والاختيارات الحرة‏.‏ ومن جهة أخري ليست الحداثة نموذجا معدا سلفا وقابلا للتطبيق الفوري‏,‏ إنها مسار تاريخي طويل يستدعي تحقيقه تغيرات هيكلية في الشعوب المتحولة إليه‏,‏ كما يستدعي مجموعة من التكيفات مع الظروف الموضوعية والتحديات الخارجية‏.‏

يمكن القول إذن أن الحداثة بدأت بوصفها ظاهرة غربية وانتهت إلي أن أصبحت ظاهرة كونية‏.‏ هناك إذن مسار يمكن أن نطلق عليه‏'‏ مسار التحول إلي الكونية‏',‏ فلا يوجد نمط إنتاج ولا نظام حكم ولا سلوك اجتماعي يكون كونيا صالحا لكل البشر في حد ذاته‏.‏ ولكن تبدأ عملية تبني تتزايد وتنتشر تدريجيا بحيث تصبح مطمحا ومرجعية لكثير من الشعوب‏.‏ وليس سعي الشعوب إلي امتلاك التكنولوجيا بل وإنتاجها‏,‏ وفخرها بما تحققه من مستويات في التنمية الاقتصادية‏,‏ ورغبتها التي تعبر عنها في قيام حكومات تمثيلية وانتخابات نزيهة‏,‏ واحتفائها بالعلم والعقلانية إلا تأكيدا علي هذا المسار الذي يخرج بالمبادئ من ثقافتها الحاضنة ليجعلها مرجعية تاريخية تشمل العالم بأسره‏.‏

الحداثة شرط تاريخي وحضاري ولكنها ليست الجنة الأرضية ولا نهاية التاريخ‏.‏ فقد بدأ نقد الحداثة منذ وقت مبكر بل كان مصاحبا لظهورها‏.‏ وتعتبر دعوة روسو للعودة إلي الطبيعة بداية هذا النقد‏.‏ كما اقترن مفهوم التقدم بظهور مفهوم الانحطاط والذي بلغ ذروته مع نيتشه‏,‏ وأشار ماكس فيبر إلي نزع السحر عن العالم بوصفه من نتائج الحداثة السلبية‏.‏ كما تمحور الإنتاج النظري لمدرسة فرانكفورت حول إدانة العديد من الأزمات التي أتت بها الحداثة مثل الشمولية والحروب والمجازر الضخمة بالإضافة إلي استخدام العقل في إحكام السيطرة علي البشر وعلي الطبيعة‏.‏

هذه الانتقادات صاحبت مسيرة الحداثة‏.‏ ولكننا في اللحظة الراهنة‏,‏ في نظر بعض المفكرين‏,‏ علي أبواب مرحلة جديدة‏,‏ يطلقون عليها‏'‏ مابعد الحداثة‏'.‏ في حين يري آخرون أننا بالفعل أمام مرحلة جديدة‏,‏ لكنها ليست إلا طورا من أطوار الحداثة تحقق من خلاله بعض وعودها‏.‏ فيري هابرماس أن أبرز منتجات الحداثة هو تأسيس المجال العام القائم علي الاتصال بين المواطنين‏.‏ ولكن هذا الاتصال قد ساده منذ أن تأسس القهر والتلاعب‏,‏ ومنوط بنضال البشر الآن تحرير هذا المجال الاتصالي والوصول إلي الحوار الحر والشفاف والذي من شأنه أن يعالج سلبيات الحداثة‏.‏ ويري ألان تورين أن الحداثة قد بدلت في مواجهة ظلامية العصور الوسطي بمطلبين رئيسيين وهما تحكيم العقل وإفساح المجال لعواطف الذات ومشاعرها‏.‏ وقد نجحت الحداثة في تحقيق المطلب الأول لدرجة أنه طغي علي المطلب الثاني‏.‏ والآن تسعي الذات إلي انتزاع حقوقها والتعبير عن نفسها في الموضة والنزعة الاستهلاكية والحركات الاجتماعية مثل المظاهرات والاضرابات‏.‏ وهذه التعبيرات‏,‏ في نظر تورين‏,‏ لا تهدف إلي مناهضة الحداثة لأنها نشأت في ظلها‏,‏ ولكنها فقط تسعي إلي تحقيق التوازن الاجتماعي بين النزعة العقلية والنزعة الذاتية‏.‏ أما برونو لا تور فيري أن الحداثة قد امتدت بسيطرة الانسان علي الطبيعة وعلي الأشياء وعلي البشر الآخرين إلي مدي بعيد‏.‏ وقد حدث بسبب إطلاق الحداثة العنان لرغبات الانسان وطموحاته‏.‏ وقد وصل به هذا الوضع إلي ورطة كبيرة بالنسبة لعلاقته بالبيئة وبالبشر الآخرين‏.‏ والآن يبدأ الإنسان في مرحلة التحكم في سلوكه من خلال الالتزام الأخلاقي والذي يعيد الالتزام الديني القديم ولكن في صيغة علمانية‏.‏

ربما نكون هنا في المقام الذي يسمح لنا بأن نقول أنه بالرغم من الانتقادات التي وجهت إلي الحداثة لا يوجد أمامنا بوصفنا شعبا من شعوب الأرض بديل آخر ولكن ذلك لا يعني أن الشعوب تساق إلي الحداثة كما يساق أبطال الأساطير اليونانية إلي قدرهم المأساوي‏.‏ أعتقد أن هناك أمام البشرية فرصة لترشيد الحداثة وجعلها أكثر إنسانية‏,‏ ولكن الإسهام في هذه العملية لن يكون فعالا إلا من خلال الانخراط فيها والكفاح في داخلها من أجل العيش في ظروف أفضل‏.‏

حداثتنا العربية‏!!‏
منذ منتصف القرن التاسع عشر انطلق ما اصطلح علي تسميته فكر النهضة العربي‏.‏ وقد تنوعت تياراته ومذاهبه فيما بعد‏.‏ ولكن هدفا واحدا اتفق عليه الجميع هو‏'‏ اللحاق بالغرب‏'.‏ ثم تواري هذا التعبير في نهاية القرن العشرين ليخلي مكانه لتعبير‏'‏ تحقيق الحداثة‏'.‏ ولم يكن هذا التغيير ليخلو من دلالة‏,‏ فلم يعد الغرب هو الوحيد المتقدم‏,‏ كما أن مسألة اللحاق تضع التقدم الحضاري في إطار سباق تبدأ المجتمعات المتقدمة فيه دائما من شروط أفضل‏,‏ مما يجعل من الصعب تحقيق هدف اللحاق‏.‏ لذا بدا‏,‏ أمام المجتمعات التي تعاني تأخرا علي المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية‏,‏ أن الوصول إلي الحداثة هدف أكثر واقعية وأكثر شمولا‏.‏

ولكن يوجد نفور لدي النخب العربية من التقليد‏.‏ فنحن نسعي دائما لأن تكون لنا بصمتنا الخاصة علي كل تجديد لحياتنا الاجتماعية بأن يكون لنا إبداعنا الخاص‏.‏ والواقع أننا هنا نطرح مشكلة زائفة‏.‏ فنحن في سيرتنا للوصول إلي الحداثة سوف يكون هناك‏,‏ شئنا أم أبينا‏,‏ ملامح خاصة لحداثتنا‏.‏ فأي ثقافة مهما غالت في التقليد لا تستطيع أن تكون صورة طبق الأصل من الثقافة المصدر‏.‏ ولا يستطيع أحد أن يزعم أن اليابان قد تحولت إلي نسخة طبق الأصل من المجتمعات الغربية بسلوكها وثقافتها‏.‏ ورغم ذلك يصعب ألا نعتبر اليابان مجتمعا حديثا‏.‏ إذ تتوافر فيها الجوانب الأربعة التي تميز الحداثة‏.‏

ولكن السياق الشائع لاستخدام تعبير‏'‏ الحداثة العربية‏'‏ يوحي بأن صفة‏'‏ العربية‏'‏ تأتي لفرملة جوانب الحداثة التي لم يتهيأ وعينا بعد لقبولها‏,‏ أو للدفاع عن مصالح فئة مهيمنة تهددها عملية التحول إلي الحداثة‏.‏ ولنضرب مثلا علي هذه النزعة الانتقائية المفروضة في التعامل مع مظاهر الحداثة‏.‏ ففي بداية القرن العشرين أنشأت البرجوازية الوليدة في مصر بورصات المال والبنوك والمصانع واعتبرت أن ذلك تحول كبير إلي المدنية والحضارة‏,‏ وحين قام عمال مصنع السجائر عام‏1899‏ بأول إضراب عمالي في مصر اتهم العمال في الصحافة بأنهم يقلدون الغربيين تقليدا أعمي يضر بمصالح الوطن‏.‏ كما أن النخب المهيمنة قبلت بسهولة إدخال علوم الفيزياء والهندسة والجغرافيا إلي ثقافتنا التقليدية‏,‏ ولكن حين بدأت الحركات الفنية والأدبية الجديدة التي تدفع الشباب إلي الجرأة والتمرد اتهمت بأنها تقليد أعمي لأدب غربي لا علاقة له بهويتنا‏.‏

نخلص إلي أنه سوف تكون لنا بلا شك ملامح خاصة عند تحقيقنا للحداثة‏,‏ ورغم أن الحداثة لم تعد حكرا علي الغرب وحده‏,‏ يصعب القول بأن هناك كيانا خاصا اسمه‏'‏ الحداثة العربية‏',‏ بالضبط كما يصعب أن نتحدث عن حداثة يابانية أو صينية‏.‏

التحديث طريق الحداثة‏
ليست الحداثة‏,‏ كما قلنا‏,‏ نموذجا معدا سلفا ولا خطة أو وصفة يمكن تطبيقها‏.‏ إنها مرحلة تاريخية تتسم بملامح محددة‏.‏ ولكنها يمكن أن تتحول من غاية نهائية إلي مشروع عملي بفضل مسار تتدخل فيه الإرادات والخطط والحسابات‏,‏ وهو ما يسمي بالتحديث‏,‏ ولا يوجد مشروع شامل للتحديث‏.‏ أي تحديث للمجتمع بأسره‏,‏ وإنما يكون التحديث دائما قطاعيا‏,‏ مثل تحديث التعليم‏,‏ أو تحديث الجهاز الأمني أو قطاع الصحة‏...‏ الخ‏.‏ ويقوم التحديث عموما علي ركنين أساسين هما رفع مستوي الأداء التكنولوجي‏.‏ وعقلنة أو‏'‏ ترشيد‏'‏ الإدارة‏,‏ هو ما يعني الاستغلال الأمثل للموارد البشرية‏.‏ ولكي يظهر أثر عمليات التحديث القطاعية علي المجتمع بأسره يأتي دور الإدارة السياسية للمجتمع التي تسهر علي ضمان التنسيق والمواكبة بين عمليات التحديث في القطاعات المختلفة‏.‏

لماذا تفشل مشروعات التحديث العربية؟
للإجابة علي هذا السؤال‏,‏ لا مفر أمامنا في البداية‏,‏ من اللجوء إلي التفسير الماركسي الذي يمثل مقاربة منهجية متماسكة لتفسير هذه الظاهرة‏.‏ وهو يقوم علي اعتبار أن العامل الأساسي في التغيير الاجتماعي أو التحديث ليس هو أفكار الفلاسفة والمفكرين ولا رغبات القادة السياسيين‏,‏ وإنما تبلور القوي الاجتماعية صاحبة المصلحة في التحديث‏.‏ فلم تظهر في أوروبا المواطنة وحقوق الإنسان والمساواة بفضل أفكار روسو وفولتير الداعية إلي الحرية والعدالة ولكنها نشأت بفضل ازدياد نفوذ طبقة التجار بعد الكشوف الجغرافية‏.‏

الحراك الاجتماعي هو الذي يجعل التحديث واقعا‏:‏ فلقد دعا جون لوك في القرن الـ‏18‏ إلي ضرورة تحديث النظام السياسي عن طريق فصل الدين عن الدولة‏,‏ واكتفاء الدولة بإدارة المصالح الدنيوية لمواطنيها‏,‏ كما دعا إلي ضرورة أن يكون الحكم تمثيليا ناتجا عن انتخابات حرة يقوم بها المواطنون‏,‏ ولكن هذا النظام حين وضع موضع التنفيذ في انجلترا انتهي إلي ما يسمي بالديمقراطية الضريبية‏,‏ وبمباركة جون لوك نفسه وهي ديمقراطية أصحاب المصالح‏.‏ ولم يستطع العمال الإنجليز الحصول علي حق الانتخاب بوصفهم مواطنين إلا في نهاية القرن الـ‏19‏ أي بعد حوالي مائتي عام من دعوة جون لوك‏.‏ وقد تحقق ذلك بفضل الثورة الصناعية والحركات الاجتماعية للعمال من إضرابات ومظاهرات‏,‏ ولم تكتسب المرأة حق الانتخاب إلا في عام‏1911.‏

هذا التفسير الذي يربط نجاح التحديث بقوة الحراك الاجتماعي ينطبق بشكل أكبر علي المجتمعات الأوروبية التي كانت الحداثة تنبثق فيها من تطورها الذاتي‏.‏ ولكنه ربما لا يصلح للمجتمعات التي كانت الحداثة فيها وافدة من الخارج‏.‏ فلو نظرنا إلي اليابان ومصر والمكسيك في منتصف القرن التاسع عشر لن نجد فارقا كبيرا بينها في الظروف الاقتصادية ولا في قوة الحراك الاجتماعي‏.‏ وبالتالي هناك أسباب أخري تفسر نجاح التحديث في بعض التجارب وفشله في البعض الآخر‏.‏

تتميز تجارب التحديث في البلاد غير الأوربية بتعاظم مهمة النخب ودورها الأساسي في تحريك المجتمع بأسره‏.‏ فحداثة النخبة وحدها لا تعد حداثة للمجتمع بل بالعكس علامة علي تخلفه‏.‏ وهذه العلاقة المتشابكة بين النخبة والمجتمع يمكن أن يوضحها لنا المثال التالي‏:‏ في عام‏1901‏ انتهي يوسف نحاس من تقديم رسالته إلي السوربون بعنوان الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلاح‏.‏ وفي خاتمتها يري أن السواد الأعظم من الشعب المصري فلاحون‏.‏ ولا يمكن لمصر أن تصل إلي حالة الرقي والمدنية إلا إذا صار الفلاحون مواطنين لهم حقوق تصان وتحترم‏.‏ ولكن الفلاحين قد بلغ بهم الجهل مبلغا لا يرتجي منهم قيام أي حركات اجتماعية تطالب بالحقوق‏.‏ ولهذا يلقي يوسف نحاس مهمة تحويل الفلاحين من رعايا إلي مواطنين علي كاهل المشرعين الذين يعدون دساتير البلاد وقوانينها‏.‏ ويؤكد علي هذا الوضع الاستثنائي للنخبة في مشروع التحديث خطاب النهضة العربية كله ونذكر في هذا الصدد الإهداء الذي صدر به طه حسين كتابه في الشعر الجاهلي‏:'‏ إلي القلة المستنيرة في هذا البلد‏'.‏

دور النخبة‏
لا يحدث التأثير الحقيقي للنخبة من خلال دعوتها الناس إلي تبني مقومات الحداثة‏,‏ ولكن التأثير الحقيقي يأتي من خلال استفادتها بما تتمتع به من سلطة اتخاذ قرارات في إحداث تغييرات هيكلية في الممارسات الاجتماعية‏.‏ فعندما توجه وكيل النيابة الشاب‏'‏ قاسم أمين‏'‏ للتفتيش علي مراكز الشرطة في صعيد مصر‏,‏ وطلب من مأموري الأقسام فورا الإفراج عن الفلاحين المحتجزين بدون تهمة يحددها القانون وبدون محضر رسمي‏,‏ كان يساهم في وضع أسس العلاقة الرشيدة بين القضاء والأمن‏.‏ وقد أطلعني صديق باحث فرنسي علي إحصائية عن أعداد التلاميذ في كتاتيب المراكز والقري المختلفة في مصر في بداية القرن العشرين‏.‏ وقد لاحظت أنه في قرية الباجور علي سبيل المثال كان عدد البنات في عام‏1904‏ هو‏12‏ تلميذة‏,‏ وفي عام‏1905‏ كان‏34‏ تلميذة‏,‏ وفي عام‏1906‏ كان‏56‏ تلميذة‏,‏ وكان عدد الأولاد ثابتا تقريبا‏.‏ وحينما سألته عن سبب هذا النمو المتسارع في عدد البنات المقبلات علي التعليم‏,‏ أجاب أن وزارة المعارف العمومية اتخذت قرارا بصرف مكافأة لكل شيخ صاحب كتاب‏50‏ قرشا في العام لكل تلميذ وجنيها كاملا في العام عن كل تلميذة‏,‏ فكان مشايخ الكتاتيب يتوجهون إلي الأسر بهدف إقناعها بتعليم بناتها‏.‏ وهكذا بينما كان الرأي العام وغالبية المثقفين في العقد الأول من القرن العشرين يشنون حملة شعواء علي كتاب قاسم أمين عن تحرير المرأة‏,‏ كان التغيير الحقيقي يتم في صمت من خلال إجراءات اتخذها مسئولون واعون بضرورة تحديث قطاع التعليم‏.‏ وهناك أمثلة أخري كثيرة مثل تأسيس جامعة القاهرة وقبول رئيسها أحمد لطفي السيد لتسجيل البنات فيها سرا‏,‏ وإنشاء اتحاد الصناعات وغيرها‏.‏

تحديث الفكر‏
لا يعني إلقاء الضوء علي هذه الجوانب المتوارية نوعا ما‏,‏ أي استهانة بدور الأفكار في عملية التحديث‏.‏ خصوصا وأن نفور الجمهور من التحديث ليس تعبيرا عن تعارض مصالح الجمهور مع عملية التحديث ولكن فقط بسبب العقلية التي بنيت علي أسس قيم ومعايير الماضي‏.‏ ومن هنا جاءت أهمية التوعية والتنوير‏.‏ ولقد كان مفكرو النهضة يعتبرون أعمالهم الفكرية إسهاما في تهيئة العقول لقبول الحداثة‏.‏

أما الجهد الأكبر الذي يقع علي عاتق المثقف فهو ترسيخ القيم والمعايير التي يحكم بمقتضاها أفراد المجتمع علي ما يجري حولهم من أمور‏.‏ والحداثة لا تعني تنميط الآراء وتوحيد الأحكام بل تسمح بتنوعها إلي حد كبير‏,‏ ولكن ما تسعي إلي توحيده هو معايير الحكم التي تنطلق من رؤي عقلانية ودنيوية‏.‏ وقد اعتبر آدم سميث أن النظام الرأسمالي هو النظام الاقتصادي الوحيد الذي يسير وفقا للعقل من حيث أنه قائم علي حسابات التكلفة والربح والخسارة‏,‏ ومن حيث أنه النظام الذي يحقق التوازن بين المصالح المختلفة لأفراد المجتمع‏.‏ ثم جاء ماركس واعتبر النظام الرأسمالي معارضا تماما للعقل لأنه يعود بالإنسان إلي عبادة الأصنام من خلال تكريسه لصنمية السلعة‏,‏ ولأنه يقوم علي الإهدار الذي يجد أعلي تجلياته في الحروب التي يتم من أجلها صنع أسلحة تتكلف موارد طبيعية وقوة عمل لتهدم إنجازات تكلفت هي بدورها موارد طبيعية وقوة عمل‏.‏ وهكذا فنحن أمام رأيين مختلفين تماما ولكن معيار الحكم واحد وهو العقل‏.‏

يتعمق دور المثقفين ويتعاظم مع تقدم مشروع الحداثة لأنهم يصبحون منتجي الأفكار في المجتمع‏,‏ كما يحددون القضايا التي يدور حولها الجدل الاجتماعي ويصف عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو دور المثقف في المجتمع الحديث بأنه يشبه‏'‏ العرضحالجي‏'.‏ فهو لا يعاني بالضرورة مما يعاني منه صاحب الشكوي‏,‏ ولكنه هو من يحسن كتابتها لأنه يضع أمام المجتمع القيم والمعايير التي أرتضي الناس أن تحكم المجال الأخلاقي والقانوني‏,‏ والتي من خلالها يمكن تسويغ المطالبة بالحقوق أو التنديد بوضع معين‏.‏ من هنا تأتي مهمة المثقفين‏,‏ إذا رغبوا في تحديث الفكر‏,‏ في الانطلاق في معاركهم من تكريس قيم الحداثة والتحدث باسمها حتي يمكن فرضها كمرجعية قانونية وأخلاقية للمجتمع بآسره‏.‏