لمعرفة مصير الرأسمالية .. اقرأوا الأربعة الكبار
السبت, 21-مارس-2009
بول كينيدي - في مواجهة الأزمات، غالبا ما سعى الرؤساء الأمريكيون لأن يجعلوا من المعروف عنهم أنهم تلاميذ جادون في قراءة التاريخ وسير العظماء. كان جورج بوش، قارئ آخر الليل النهم، يلتهم كتباً عن حياة عظماء الرجال، بمن فيهم بطله وينستون تشرشل الذي بدوره كان يحب القراءة عن سلفه الشهير، مارلبورو. وباراك أوباما يقرأ السيرة الذاتية لأبراهام لنكولن للحصول على الإلهام.

هل من المجدي أن نقترح في ظل فداحة الأزمة المصرفية، والائتمانية، والتجارية، على أوباما ورفاقه من الزعماء قراءة سير أعظم الاقتصاديين السياسيين في العالم، بدلاً من ذلك؟ وربما نكون في أوضاع اقتصادية كئيبة، بحيث تصبح إدارة الميزانيات صفة أهم في عالم القيادة من إدارة وتوجيه السفن الحربية.

ولأن زعماء هذه الأيام لا يحتمل أن يتمكنوا من قراءة كل المؤلفات الرئيسية في الاقتصاد السياسي، دعونا نساعدهم باختيار أربعة من أعظم الأسماء من روبرت هايلبرونر الكلاسيكية "الفلاسفة الدنيويون: حياة، وأزمان، وأفكار كبار المفكرين الاقتصاديين: آدم سميث؛ المؤسس الفعلي لهذا المساق والمبشر المبكر بالتجارة الحرة، وكارل ماركس؛ الناقد الخارق لنقاط ضعف الرأسمالية والأقل اعتمادية فيما يتعلق بانهيارها "المحتوم"، وجوزيف شومبيتر، النمساوي اللامع الذي من المؤكد أنه لم يكن خصماً للنظام الرأسمالي، لكنه حذر من التقلبات المتضمنة فيه، أي اندفاعه الدائم الخاص بالتدمير الخلاق، وكذلك تلك العقلية العظيمة، جون ماينارد كينز الذي أمضى النصف الثاني من مسيرة حياته المدهشة باحثاً عن سياسات لإنقاذ نظام السوق الحرة المزاجي من الانهيار التام.

ربما يمكن لكاتب الروايات الموهوب والمتميز، توم ستوبارد، أن يضع كل هؤلاء العلماء على المسرح، ويقدم حواراً أخاذاً بينهم في إحدى أمسيات نهاية الأسبوع حول مستقبل الرأسمالية. وبما أن مثل هذا العمل الخلاّق غير موجود، فماذا يمكننا أن نتصور ما يقوله هؤلاء الاقتصاديون السياسيون العظماء عن أزمتنا الاقتصادية الحالية؟

يمكن للمرء أن يتخيل سميث، وهو يدعي أنه لم يتبن على الإطلاق مبدأ "دعه يعمل" الذي انطبق على كيفية تناقض قروض الرهن العقاري للناس غير الآمنين مالياً، مع إيمانه المطلق بالاقتصاد الأخلاقي، كما أنه سيكون مندهشاً من الإنفاق الممول بالعجز الذي قامت به حكومات كثيرة. أما ماركس، فسيحس بإصابات شديدة حين يعلم بالتحريف الذي أدخله لينين وستالين على نظرياته الشيوعية، وكذلك حين يعلم بزوال معظم الاقتصادات الاشتراكية في العالم بعد عام 1989. ومع ذلك، يمكن أن يشعر بالسرور وهو يرى تخبط الرأسمالية المالية العالمية الحديثة في تناقضاتها. النمساوي، شومبيتر، على النقيض من ذلك، يمكن أن يقدم لنا محاضرة لابتلاع عقد آخر من الركود قبل أن تبرز مرة أخرى صيغة رأسمالية أحدث وأكثر انضباطاً ودقة، رغم أن ذلك سيرافقه الكثير من دلائل الاندفاع المدمر (نهاية صناعة السيارات الأمريكية، وتراجع مكانة الحي المالي في لندن) في أعقاب ذلك.

ماذا عن كينز؟ أخمن أنه لن يكون سعيداً للغاية بما آلت إليه الأمور في أيامنا هذه. وربما ينظر إليها (وأقول ربما) براحة تعادل راحته إزاء ما نقل عنه، أو ما نقل خطأ عنه، ملايين المرات، من جانب وسائل الإعلام. لكن المرء يمكن أن يعتقد أنه لن يرتاح لجوانب من برنامج أوباما الإنفاقي القائم على العجز، كما يمكن ألا يعجبه اقتراح وزارة الخزانة الأمريكية تخصيص المزيد من الأموال لشراء الديون السيئة وإنقاذ البنوك بأكثر مما تخصصه للاستثمار في إيجاد الوظائف. ولن تعجبه كذلك هذه الفورة الإنفاقية من جانب واشنطن التي تبدو غير منسقة مع ما تقوم به بريطانيا، واليابان، والصين، وبقية دول العالم. لكن أكثر ما يمكن أن يزعجه هو أنه ما من أحد يسأل من الذي يشتري ما قيمته 1750 مليار دولار من سندات الخزانة الأمريكية التي تعرض في الأسواق هذا العام. وهل سيقوم بذلك الرباعي الآسيوي المكون من الصين، واليابان، وتايوان، وكوريا الجنوبية (التي لديها جميعاً انهياراتها الكارثية على صعيد الإنتاج)، أم الدول الأوروبية والأمريكية الجنوبية، الأقرب إلى الإفلاس. وإذا كان هذا العالم سيشهد كل هذه الكميات الضخمة من الأوراق المالية، فمن ذا الذي يتوافر لديه ما يكفي من الأموال لشراء تلك الأوارق المالية المنتظر طرحها في الأسواق عام 2010 ثم عام 2011، بينما تتدهور الولايات المتحدة إلى مستويات من المديونية يمكن أن تجعل سجل مديونية الملك الإسباني، فيليب الثاني، تبدو أمراً متقشفاً مقارنة بها؟

ربما يكون كل فلاسفتنا الأربعة هؤلاء على حق. وإن الرأسمالية بمعنى قدرتنا على الشراء والبيع، وتحريك الأموال كما نريد، وتحقيق الأرباح نتيجة لذلك، تواجه مشاكل عميقة. ولاشك أن سميث، وهو يشاهد انهيار آيسلندا ومتاعب إيرلندا، سيراجع قوله المأثور بأن هناك حاجة فقط إلى أمور أقل لإنشاء دولة منتعشة اقتصادياً، مقارنة بتحقيق "السلام، وفرض الضرائب، والإدارة المقبولة للعدالة"، إذ إن ذلك لم ينجح هذه المرة. وعلى النقيض من ذلك، ربما تُسمع همهمات الرضا من قبر كارل ماركس في مقبرة هايجيت، الأمر الذي يحدث إثارة لدى الأعداد التي تفد إليه من الزائرين الصينيين. وأثناء ذلك ربما تكون لدى شومبيتر أسبابه المقنعة ليهمهم قائلاً "هذا في الواقع ليس بالأمر المفاجئ". وبالنسبة إلى كينز، فقد نتخيله وهو يحتسي الشاي مع فتنجشتاين في مروج جرانشستر الخضراء، ويعض شفتيه بسبب عدم قدرة بني البشر العاديين على إنجاز أمورهم بصورة ملائمة، وكذلك بسبب ميلنا لممارسة التفاؤل وتعامينا عن علامات سخونة حركة الاقتصاد الشديدة، وميلنا للهلع وحاجتنا، بين الحين والآخر، إلى العودة إلى الرجال الأذكياء من أمثاله لإعادة جمع أجزاء الرأسمالية العالمية المحطمة مرة أخرى.

أدرك كل هؤلاء الاقتصاديين السياسيين بالفطرة أن انتصار قوى السوق الحرة، بكل ما أسفر عنه ذلك من إزالة العقود الاجتماعية، وتقليل شأن الدولة فيما يتعلق بسيطرتها على الأفراد، وانتهاء القيود على الربا، لن يعمل فقط على جلب ثروات أعظم للكثيرين، لكن يمكنه كذلك أن يسفر عن نتائج ربما تكون غير مقصودة يمكن أن تنتقل آثارها إلى مجتمعات بأكملها. وإن "دعه يعمل" و"دعه يمر" لم تكن فقط دعوة لأولئك الرازحين تحت قيود القرون الوسطى الموروثة، بل إنها كانت كذلك دعوة لتحرير بروميثوس من الثقل الذي يحمله على كتفيه. وبصورة منطقية، تلك الدعوة حررتك من كل من قيود ما قبل عصر السوق، وعرضتك لمخاطر الكارثة المالية والاقتصادية. وبدلاً من قواعد وقوانين الإمبراطور أغوسطين، جاءت إلينا الفرص الانتهازية لمن هم على شاكلة مادوف.

وباستخدام هذه الطريقة الغريزية في التفكير، فإن معظم الحكومات المنطقية منذ أيام سميث كانت تتخذ احتياطات ضد السعي المحموم الذي يقوم به مواطنوها لتحقيق منفعتهم الخاصة. كانت البلدان تبرر ذلك مثلاً باحتياجات الأمن القومي (وبالتالي لا بد من حماية صناعات معينة، حتى لو كان ذلك غير اقتصادي)، أو الرغبة في المحافظة على الاستقرار الاجتماعي (وبالتالي لا تسمح لـ 1 في المائة من السكان بامتلاك 99 في المائة من ثروة البلاد واستثارة الاضطرابات المدنية)، والحس المشترك المنطقي الذي يقضي بالإنفاق على المنافع العامة (وبالتالي الاستثمار في الطرق العامة والمدارس ومراكز الإطفاء). والواقع أنه باستثناء بعض الدول المتمسكة بالشيوعية بشكل سخيف، مثل كوريا الشمالية، فإن جميع أنظمة الاقتصاد السياسي المعاصرة تقع على طيف معروف من ترتيبات تتسم بقدر كبير من السوق الحرة وتظل تتناقص على طول الطيف باتجاه البلدان ذات القدر القليل من السوق الحرة.

لكن الذي حدث خلال العقد الماضي أو أكثر هو أن كثيراً من الحكومات تراخت في القيام بواجبها وسمحت لأفراد وبنوك وشركات تأمين وصناديق تحوط، كلهم يتسمون بسرعة الحركة ويسعون لتحقيق الربح، بخلق مخططات استثمارية جديدة، واقتراض أموال هائلة للحصول على المزيد من رأس المال، على أساس موارد حقيقية تتناقص باستمرار، ما أدى بصورة عجيبة إلى توسيع مجموعة الضحايا الذين يسهل خداعهم (أفراد أغبياء من ذوي الدخل المتدني، ومنظمات غير ربحية تأمل في جني المال، وجمعيات خيرية يهودية، وأصدقاء صديق أحد مديري الاستثمار، وغيرهم كثير، فالقائمة طويلة) ما خلق بالتالي ظاهرة عصرية مذهلة في زماننا شبيهة بفقاعة ساوث سي South Sea Bubble (أكبر مخطط احتيالي في التاريخ. في عام 1720 ارتفعت أسعار أسهم شركة ساوث سي إلى عنان السماء بناء على أقوال وشائعات وعوامل الجشع التي جعلت الناس يظنون أن الشركة تتمتع باحتكار فعلي في مجال الشحن البحري التجاري. ولعدم وجود قوانين رادعة، استمرت إدارة الشركة في إصدار الأسهم استجابة للطلب الذي لا يشبع. وفي النهاية ظهرت الحقيقة وهرب أصحاب الشركة ووصل سعر السهم إلى الحضيض). وكما هو الحال في جميع عمليات الانهيار الائتماني العملاقة التي من هذا القبيل، يقع الضرر على المزيد من ملايين الناس (الأبرياء والحمقى على حد سواء)، وسيتأثرون أكثر مما يتأثر مبتكرو العلاجات السحرية من المشعوذين الماليين ومديري القروض، الذين كانوا وراء ما يعرف باسم مخططات "خلق الثروة".

ما هو إذن مستقبل الرأسمالية؟ رغم آمال ماركس، فإن النظام الحالي المتضرر لن يزول ليحل محله مجتمع شيوعي يتساوى فيه الجميع. إن الاقتصاد السياسي المستقبلي لمجتمعاتنا لن يكون على الأرجح نظاماً يمكن أن يرتاح إليه سميث أو أتباعه المعاصرون، لأنه سيكون هناك قدر من التدخل الحكومي في "السوق" أعلى مما يمكن أن يرتاح له هؤلاء، وقدر أعلى نوعاً ما من الضرائب، والاستحواذ العام الثقيل لمبدأ الربح بصورة عامة. أغلب الظن أن شومبيتر وكينز سيشعران نوعاً ما بالألفة "وأنهما في بيتهما" وسط هذا الاقتصاد السياسي الرأسمالي الجديد لعصر ما بعد الإفراط. سيكون هذا الاقتصاد نظاماً تجري فيه مراقبة قريبة تماماً لأصحاب المشاريع النشطة والقوية في السوق (وسيتم ترويضهم) على يد عدد من المراقبين المحليين والدوليين، وهو ترويض سترحب به الغالبية العظمى من المشاهدين من أعماقهم، لكن لن تكون هناك تضحية شعائرية لقربان مبدأ حرية المشاريع، حتى لو اضطررنا إلى الولوغ أكثر من ذي قبل في الكساد الاقتصادي للسنوات المقبلة. الإنسان الاقتصادي سيتعرض لعلقة مؤلمة. لكن الرأسمالية، بشكلها المعدل، لن تختفي من الوجود. وكما هو الحال مع الديمقراطية، فإنها تعاني من جوانب نقص خطيرة، لكن كما هي نظرتنا إلى الديمقراطية، فإن منتقدي الرأسمالية سيكتشفون أن جميع الأنظمة الأخرى أسوأ منها. هذا ما يخبرنا به الاقتصاد السياسي. 


* الكاتب أستاذ التاريخ ومدير دراسات الأمن الدولي في جامعة ييل، وألف وحرر 19 كتاباً، بما فيها "صعود وهبوط القوى العظمى" The Rise and Fall of the Great Powers (Vintage). ويعمل الآن على كتابة تاريخ العمليات في الحرب العالمية الثانية. للمشاركة في النقاش ا ذهب إلى www.ft.com/capitalismblog