كيف تفلت إسرائيل بجرائمها؟
الاثنين, 09-مارس-2009
جيوفري ويتكروفت - عندما سأل اللورد ديربى السير لويس (برنشتاين) ناميير- مؤرخ العصر الجورجي القدير، لماذا، وهو يهوديّ، لم يكتب عن التاريخ اليهودي؟. أجاب ناميير (1888-1960) :" لا يوجد تاريخ حديث لليهود، هناك فقط (ثقافة) الاستشهاد اليهودي، وهذا موضوع لا يستهويني على الإطلاق".

ربما يقال إنّ غاية المشروع الصهيوني - الذي ناصره ناميير بكلّ حواسه - هو رفض الاستشهاد اليهودي، وتحويل اليهود من ضحايا لا يملكون من أمرهم شيئا إلى صانعين لمصيرهم. بينما سيقول آخرون، في اللحظة التي يشاهدون فيها الأخبار من غزة، وحيث الصورة تلي الأخرى مسبّبة اشمئزازا عميقا، إنّ ما تمّ إنجازه (من المشروع الصهيوني) مسكون بنقيصة.

ولكن، علاوة على ذلك، فإنّ رفض الاستشهاد وثقافة الضحية ربما يفسّران حيرة من يراقبون (الوضع فى غزة)، حيال حقيقة تجاهل إسرائيل تماما للرأي العام العالمي. بلدان العالم الإسلامي تكنّ - بالطبع- عداءا شديدا لإسرائيل، وبالمقابل تتبع إسرائيل تجاه جيرانها المبدأ اللاتيني oderint dum metuant،:( أى) دعهم يكرهوننا، ما داموا يخافوننا.

وبما أنه لا فائدة من محاولة كسب قلوب سكان هذه البلدان (الإسلامية) وعقولهم، فعليهم أن يتعلّموا احترام القوّة المطلقة، وهو طرح لا يمكننا أن ننكر أنه لاقى نجاحا عمليا بشكل ملحوظ. أما الغرب فهو مختلف، والمشاعر الأوربية قد تتغير حسب الأحداث، مثلما يحدث دائما. فبعد أن كانت إسرائيل والصهيونية قضيتين شعبيتين، ليس فقط في أوساط اليسار الليبرالي، بل فى أوربا كلها حتى حرب الأيام الستة فى 1967 وما بعدها، بدأت تفقد هذه الوضعية شيئا فشيئا عندما هاجمت لبنان فى 1982، ومرة ثانية فى 2008، وقمعت الانتفاضتين (الفلسطينيتين) فيما بين هذين التاريخين، متجاهلة كل أنواع النقد القاسية والتوبيخ.

ولم تفلح أيّ انتقادات لمنظمات الإغاثة أو الصليب الأحمر فى أن تحرز أيّ اختلاف على هذا الصعيد، بل إنّ إسرائيل، وهو ما يثير المرء أكثر، تجاهلت قرار مجلس الأمن (رقم 1860 الصادر يوم 8 يناير ) الداعي إلى وقف إطلاق النار. سبب واحد لهذا هو أنّ الدولة الغربية الوحيدة التى تعتدّ(إسرائيل) بها هي الولايات المتحدة، وقد استطاعت إسرائيل طوال سنوات عدة أن تضمن دعم هذه الدولة غير المشروط.

فقد هددت باستخدام (حقّ) الفيتو ضدّ مشروعات القرار السابقة(للقرار 1860)، واشتركت في صياغة قرار مجلس الأمن الداعي إلى وقف إطلاق النار، وكان من الواضح أنها ستصوّت عليه، قبل أن يصدم المندوبون الأمريكيون مساء الخميس (8 يناير) أعضاء المجلس (الأمن) الآخرين بالامتناع عن التصويت.

حدث هذا التغيّر الكامل والمفاجئ فى الموقف الأمريكي بموجب أوامر مباشرة صدرت من البيت الأبيض، بعدما تحدّث الرئيس بوش إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود أولمرت، وبهذا (الحديث) ظفر الإسرائيليون بالامتناع عن التصويت كتصريح للمضيّ قدما فيما يفعلونه. وفي ظل ظروف مثل هذه، كان مفهوما بما فيه الكفاية، تصريح وزيرة الخارجية تسيبي ليفنى لصحيفة الواشنطن بوست أمس(10 يناير ) بأن "إسرائيل لن تلتزم بضبط النفس".

توصف إسرائيل أحيانا بأنها دولة تابعة لأميركا، حيث تتلقّى معونات مالية ضخمة من واشنطن، إلا أنّها، وعلى الرغم من ذلك، دولة فريدة فى تبعيتها: فهي تستطيع أن تفعل ما تشاء، لإدراكها أنّ راعيها لن يكبح من جماح تصرفاتها بأيّ حال من الأحوال. وحتى فى اللحظات التى أثارت الأفعال الإسرائيلية ثائرة البيت الأبيض، فإنّ الكونجرس، حيث لا يمكن المزايدة على دعمه اللامتناهي (لإسرائيل)، أثبت أنه من الممكن الاعتماد عليه بشكل مطلق.

فى صيف 2006 وفى أتّون القصف (الإسرائيلي) على لبنان، مرّر مجلس النواب بموافقة 410 صوتا ومعارضة 8 قرارا يدعم فيه كلية إسرائيل، وأصدر مجلس الشيوخ مؤخرا (8 يناير) قرارا مماثلا بمجرد رفع الأيدي دون أن يكلف نفسه بتقديم حصيلة رسمية للأصوات. لهذا فإنّ أيّ شخص اعتقد أن هناك تغييرا ما قد يطرأ فى على النهج الأمريكي عقب الانتخابات (الرئاسية)، لم يكن منتبها لما يحدث بالشكل الكافي. فباراك أوباما هو الذي ترك حملته الانتخابية ومضى ذاهبا إلى إسرائيل ليعلن تأييده لها.
وهو الذي عين هيلارى كلينتون فى منصب وزيرة الخارجية لتكون بذلك أقوى مؤيّدي إسرائيل بين كلّ من تقلّدوا منصب وزارة الخارجية (الأمريكية) بمن فيهم هنري كيسنجر، اللاجئ اليهودي من(محرقة) هتلر، لا يضاهيها فى هذا التأييد سوى رام عمانويل . رئيس طاقم البيت الأبيض.

لكن هناك ما هو أكثر من ذلك، فالتعنّت الإسرائيلي، أو اللامبالاة أمام الرأي العام العالمي يعود إلى ما قبل ولادة الدولة (إسرائيل). والقاسم المشترك ما بين (رام) عمانويل وإيهود أولمرت وتسيبي ليفنى (هو أنّ ) آباء الثلاثة خدموا فى الإرجون، وهى ميليشيا صهيونية متعنّتة، وصفها أشعيا برلين وغيره بالإرهابية، بينما وصف ألبرت اينشتاين عناصرها بالفاشيين.

سبق للإرجون فى السنوات الأخيرة من الانتداب البريطاني أعوام 1946-1948 أن شنّت حملة عنف ضدّ البريطانيين والعرب الفلسطينيين، شملت تفجير فندق الملك داوود في القدس الذي أسفر عن خسائر جسيمة في الأرواح، وشنق عريفين بريطانيين ، وارتكاب مذبحة ضد قرويي دير ياسين.

يكمن وراء هذه الوحشية شيء آخر.فكما قال مكيافيللي فإنّ الإنسان ينتقم للأخطاء الصغيرة عاجزا عن الانتقام للأشياء الكبيرة وقد انتقمت أرجون بطريقة لا يمكن مقارنتها ولا تخيّلها لما لاقاه اليهود الأوروبيون من معاناة.

تقول الصهيونية إنّ اليهود حاولوا أن يكونوا لطفاء مع الأغيار (غير اليهود)، ولكن لتنظر ماذا حدث جراء ذلك!
الدولة اليهودية ستخلق الآن وستحرس بكل ما يلزم من قوة، غير مكترثة بما يراه العالم الخارجي. وإذا اقتضى الأمر، ستقترض إسرائيل القديمة هتافات مشجّعي (النادي الإنجليزي) ميلوال " لا أحد يحبّنا ونحن لا نهتمّ"، ولا مزيد من الاستشهاد اليهودي.

لم يكن ناميير هو الصهيوني الوحيد الذي استخدم (كلمة) يهودي بمدلولها الساخر، فعندما ذكرت مقولة تروتسكي " لا حرب، لا سلام"، أمام ديفيد بن جوريون، ردّ بالقول إنها "مجرّد فكرة يهودية حمقاء "، وهناك قصة إسرائيلية معروفة عن موشيه ديان، البطل العسكريّ لحرب الأيام الستة حين كان يدرس في كلية قادة الأركان الإسرائيلية، هو أنه اعتاد أن ينهي حديثه فى مشكلة ما بالقول "وأنا لا أريد الحلول اليهودية هنا". كان قصد ديان، هو أنه يتوقع سواء على طاولة الرمل أو فى الميدان، أن ينتصر فى معاركه بالاندفاعية والوحشية، وليس من خلال القيم اليهودية التقليدية كالصبر والمكر.

لقد نجح تطبيق القسوة الصهيونية لفترة طويلة، لكن ربما ستكتشف إسرائيل يوما أن هناك شيئا ما يمكن أن يقال عن الحلول اليهودية.