ظِلال الجوع القاتِمة: مستقبل الأمن الغذائي في العالمين العربي والإسلامي
الثلاثاء, 03-مارس-2009
إبراهيم علي شعافي - شكّل نقص الغذاء على مر العصور تحدياً للإنسان يدفعه إلى العمل والكدح وابتكار وسائل جديدة من أجل الإفادة من هذه الأقوات المقدرة التي بثها الخالق جل وعلا، وكانت النتيجة من نصيب الإنسان وهذا هو الحال اليوم أيضاً؛ فسكان الأرض قد بدءوا بمواجهة تحدٍّ جديد، والمقدر أن ينجح الإنسان المعاصر في هذا الامتحان كما نجح فيه سابقه، ولنستمع إلى شهادة عالم كبير، هو نورمان بورلو، الذي نال جائرة نوبل لجهوده في دراسة مسألة نقص الغذاء العالمي. لقد أعلن هذا العالم: "إن العالم ينتج ما يكفي لإطعام شعوبه بشكل جيد، لكن المشكلة تكمن في التوزيع العادل للإنتاج الغذائي".
إذن يتعلق الأمر بالتوزيع، ولعل مشهد المزارعين الأميركيين والأوربيين وهم يقذفون بأطنان الحبوب إلى البحر- للمحافظة على أسعارها- كما يفعلون في أكثر من منتج غذائي وزراعي، مقارنة بمشهد الطفل المنتفخ البطن من أمراض الجوع في أفريقيا، ما يلخص القضية كلها.
ونتأمل - من أجل المزيد من التأكيد بأن هناك اختلالاً مريعاً في التوزيع وفي التقنية- إلى رقم الخمسين مليار دولار، الذي تنفقه الولايات المتحدة الأميركية وحدها على أدوية إنقاص الوزن وتقنيات إذابة الشحوم وغيرها؛ فهذه الخمسون مليار كافية لتوفير الجرّارات والمخصبات لكل قارة أفريقيا الجائعة التي لا تنقصها الأرض. ولذلك، فمقولة الأرض التي تعجز عن إطعام سكانها خرافة ووهم كبير؛ فالأرض لم تبخل، ولن تبخل، على سكانها بالغذاء الوفير. وسوف نتعرض في هذه القراءة السريعة إلى بعض المفاهيم والأفكار حول الأمن الغذائي مع عرض موجز للهدي الإسلامي في أصول الأمن الغذائي.
لقد أدى سوء توزيع الموارد الطبيعية والطاقات البشرية في العالم الإسلامي إلى تفاوت الدخول وإلى حدوث اختلالات كبيرة في مستويات المعيشة بين أبناء الوطن الواحد، إضافة إلى عدم القدرة على تحقيق الحد الأدنى من التناسب والتوازن، وفي توزيع السكان، والموارد والاعتماد على سلعة واحدة، وندرة رأس المال، وانخفاض مستوى المعرفة والتقنية، وعدم الاستفادة من الأساليب المتقدمة في الإنتاج، وارتفاع نسبة الأمية، وعدم التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، إضافة إلى عدم التنسيق بين الدول الإسلامية في غيبة إستراتيجية واضحة المعالم ترسم الطريق وتحدد الأولويات؛ كل هذه الأمور والمعوقات تُنذِر بوقوع خطر محدق يجب أن ننتبه إليه قبل أن تتفاقم الكارثة، ويصعب الأمر، ويصعب السيطرة عليه، ويصاحبه انهيار في البنية الأساسية لهذه المجتمعات، وذلك في إطار برنامج عمل يحقق التكامل والتوازن، ويتجاوز الخلافات والتناقضات السياسية والأيديولوجية في عالم يقوم نظامه على التكتلات الاقتصادية الكبيرة.

أولوية الغذاء
تتمثل الاحتياجات الأساسية للإنسان على وجه الأرض في ثلاثة أمور رئيسية هي: الغذاء والمأوى والدواء، لذلك يعتبر الغذاء أول تلك الاحتياجات، فبدونه يفني الإنسان، وبه يحيا وينمو. لهذا كان إنتاج وحفظ الغذاء بحدوده الدنيا أو العليا، وعلى مدار العام لتلبية احتياجات معينة ومحددة لمجموعة بشرية محددة ومعينة، من أولى واجبات القائمين على تلك المجموعة، اقتصاديا وحياتياً، فلقد عرف الإنسان ما للطبيعة وعطائها الزراعي (بشقيه النباتي والحيواني) من مواسم وفيرة وأخرى شحيحة، كما تعامل مع نتائج الكوارث الزراعية التي لحقت بالمجتمعات.
إن سبب الفقر في العالم هو سوء توزيع الثروة في المجتمع؛ ففي عالم دول الشمال، الذي يضم ربع البشرية يصل معدل دخل الفرد فيه إلى خمسة وثلاثين ضعفاً مقارنة بدخل الفرد في دول الجنوب، وفي عالم دول الجنوب، توجد المعاناة بكل أبعادها، وبخاصة في توفير الغذاء للمواطنين، الكم والنوع المطلوب.
إن عالمنا له خصائص مميزة، من النواحي الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والحضارية، وله من الإيجابيات قدر ماله من السلبيات؛ ففي حين وفر العلم والتكنولوجيا للإنسانية وسائل وأدوات ومعارف أدت إلى زيادة الإنتاج وتحسين الإنتاجية للمنتجات الزراعية الغذائية (بشقيها الحيواني والنباتي)، فإن دخول العالم إلى عصر العلم والتكنولوجيا ونتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، قلبتا معايير كثيرة، فلم تعد مناطق العالم النامية مناطق تعتمد عليها الدول الكبيرة في توفير ما تحتاجه لتعيش وتزدهر، وبخاصة من النواحي الغذائية. فالحرب - مثلاً - معناها قطع خطوط الاتصالات البحرية والبرية وحتى الجوية أحياناً، ومعناها - أيضاً- أن على الدول الكبيرة أن توفر لنفسها الإنتاج من مواردها الطبيعية كأساس لا غنى عنه، ثم إيجاد حلفاء اقتصاديين تتكامل معهم في سدّ النقص الذي تعانيه، ومن ثم إيجاد خزين غذائي لها يقيها شر الويلات الإنسانية.
وهكذا، أصبح إنتاج الغذاء عالمياً يتسم بسمات عصرنا الحالي، التوسع في استخدام مرافق ومنجزات العلم والتكنولوجيا، والتوسع في الإنتاج الكبير، وتحسين الإنتاجية والمشاريع العملاقة والشركات عابرة القارات ثم الاحتكار واستخدام الغذاء كأحد الأسلحة التي تملكها قوى الاحتكار العالمية. وحين قسمت دول العالم إلى دول الشمال ذات الوفرة الإنتاجية، ودول الجنوب ذات الشح والحاجة، أصبحت سلع غذائية - كالحبوب الخشنة واللحوم والبيض والألبان والزيوت النباتية – سلع دول الشمال غزيرة الإنتاج الفائض عن الاحتياجات في مجتمعاتها ذات القدرات الخارقة على دعم الأسعار وتحديدها وتصدير ما يزيد منها، وأصبحت دول الجنوب دول الحاجة معتمدة على الوردات المتزايدة.
وكان سعي دول الجنوب إلى تغيير المعادلة (وهو ما يعرف بالنظام الاقتصادي الراهن) أو إيجاد معادلة تضمن حقها وحقوق الآخرين، فعبأت قدراتها الممكنة، وعملت على زيادة إنتاجها الغذائي، كما عملت على إيجاد خزين من ذلك الغذاء ليقيها شر التقلبات دائمة التوقع. والأقطار العربية – بكاملها- والكثير من دول العالم الإسلامي إنما تمثل جزءاً من دول الجنوب، وهي تعتبر من أكثر مناطق الدنيا احتياجا لاستيراد العديد من احتياجاتها الغذائية لمواطنيها من الخارج.
هذه الأقطار تعيش حالة غذائية خطيرة، فلقد تخطت (مرحلة العجز الغذائي) لتصل إلى (مرحلة الانكشاف)، وهذا الانكشاف الغذائي له أسباب عديدة، وهو لا يشمل سلعة محددة، بل يشمل سلعاً عديدة أولها الحبوب – وخاصةً القمح- مروراً باللحوم والألبان والزيوت النباتية والسكر وغيرها، ولكل من هذه السلع سماتها الاقتصادية ومواصفاتها الفنية العالمية، وكلها تعتبر من السلع الإستراتيجية، لكن أهمها بالنسبة للوطن العربي هي: الحبوب، وخاصة القمح. ونحن نؤكد أن عدم تناول موضوع الأمن الغذائي بجدية وإيجاد الحلول الكفيلة بتحقيقه في بلداننا العربية والإسلامية، سيؤدي إلى خلق كوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية داخل هذه البلدان.

البعد الأمني في مشكلة الغذاء
على الرغم من أن مشكلة الغذاء مشكلة اقتصادية قي المقام الأول، لأنها تعبر عن شكل من أشكال العلاقة بين العرض والطلب، أو بين الإنتاج والاستهلاك، إلا أن لها أبعاداً متعددة، يهمنا منها هنا (البعد الأمني). ونظرا لما لهذا البعد الأمني من أهمية كبيرة، فقد شاع مصطلح (الأمن الغذائي) بسبب الارتباط الوثيق بين كل من الغذاء والأمن؛ فالغذاء – كما سبقت الإشارة – هو أحد حاجات الإنسان الضرورية والتي تتمثل في المأكل والملبس والمسكن، إلا أن الغذاء يعتبر أهمها. فالإنسان لا يستطيع الاستغناء عنه أو الصبر على الجوع. لقد عاش الإنسان الأول عارياً دون ملبس ودون مأوى، ولا تزال أقوامٌ أخرى كثيرة تعيش اليوم في مجاهل إفريقيا تسير عارية أو شبه عارية، لكنها رغم ذلك لا تستطيع الحياة بلا طعام.
الطعام إذن هو أول مقومات الحياة، فإذا لم يوفر بشكل يستطيع الناس الحصول عليه هاج الشعب وثار، مما يؤدي إلى قيام الاضطرابات والفوضى واختلال الحالة الأمنية في البلاد، ولذلك فإن توفير الطعام للسواد الأعظم من الشعب على نحو يناسب دخلهم يساعد على استتباب الأمن في المجتمع. ومن ناحية أخرى، فإن الدولة التي لا تستطيع تأمين الطعام لشعبها من مصادر محلية تصبح عاجزة أمام الضغوط والتحديات التي تواجهها، مما يعرض أمنها للخطر ووحدتها للاستباحة. فالأمن الغذائي لبلد ما أو منطقة جغرافية معينة هو الحال الذي يكون فيه وضع المواطنين الغذائي - في ذلك البلد أو تلك المنطقة - غير معرض الحدوث أزمات غذائية تحت أي ظرف كان أو في أي زمن.
وإذا كان توفير الغذاء يمثل الجانب الأمني، بل الجانب الرئيسي للأمن الغذائي، فإن الجانب الآخر هو توفير إمكانية الاتصال وإيصال ذلك الغذاء إلى حيث تكون الحاجة إليه. وعلى ذلك، فإن المقاييس التي تحدد الأمن الغذائي لبلد ما أو لمنطقة جغرافية معينة هي:
- نسبة الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية (ذات النمط الغذائي السائد).
- نسبة قيمة الإنتاج الزراعي المصدر للإنتاج الزراعي المستورد.
- نسبة قيمة المستوردات الزراعية الإجمالية لإجمالي الاستيراد.
- نسبة قيمة الإنفاق على الغذاء من إجمالي الدخل القومي.
- نسبة التقلبات السنوية في الإنتاج الزراعي إلى إجمالي الناتج المحلي.
- متوسط حصة الفرد من قيمة الإنتاج الزراعي.
- نسبة صافي الوردات الزراعية إلى إجمالي الناتج المحلي.
- نسبة المخزونات الغذائية، وبخاصة القمح، إلى مقدار الاستهلال السنوي.
فالأمن الغذائي إذن هو تحفيز قدرات وفعل منسق وعمل هادف لحل معضلات محددة فرضها واقع زراعي (صناعي – اجتماعي- اقتصادي) في بلد ما، أو في منطقة جغرافية معينة. وبالإمكان تحديد مفهوم الأمن الغذائي ليشمل ضمان توفير بعض السلع في الأسواق المحلية على مدار العام، وبأسعار مناسبة، وذات قيمة غذائية تكفل للإنسان بقاءه حياً، وتمكنه من أداء مهامه الاقتصادية بصورة صحية مناسبة.

مفهوم الأمن الغذائي
مما سبق يمكن تعريف الأمن الغذائي بأنه قدرة مجتمع ما على توفير الاحتياجات الأساسية من الغذاء للمواطنين وضمان حد أدنى من تلك الاحتياجات بانتظام، عبر إنتاج السلع الغذائية، وتوفير حصيلة كافية من عائدات الصادرات لاستخدامها في استيراد ما يلزم لسد النقص في الإنتاج الغذائي الذاتي، بدون أي تعقيدات أو ضغوطات من أي مصدر كان. كما أن المقصود بالأمن الغذائي قد يكون توفير الغذاء اللازم للمجتمع من مصادره المحلية والخارجية، وضمان توزيع الغذاء وجعله في متناول كل أفراد المجتمع.
وقد تفاوتت النظرة الى المجال الحيوي الذي يجب فيه توفير الأمن الغذائي، ففي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن الأمن الغذائي يجب توفيره على المستوى العالمي، أي أن يكون الغذاء المنتج في العالم كافياً لسد احتياجات العالم, نجد أن البعض الآخر يعتقد أن الأمن الغذائي يجب توفيرة على المستوى الإقليمي، أي أن يستطيع الإقليم إنتاج ما يكفي لحاجة سكانه من الغذاء. كما نجد أن البعض يُغالي في الاعتقاد بأن تحقيق الأمن الغذائي يجب أن يكون على مستوى كل دولة على حده، وبحيث تستطيع كل دولة ان تضع خططها وبرامجها لإنتاج حاجاتها من السلع الغذائية الإستراتيجية، منعاً من التأثير عليها أو التحكم في أي مصدر من مصادر الغذاء.

المخزون الاستراتيجي
يرتبط مفهوم المخزون الاستراتيجي بمفهوم الأمن الغذائي، وهو أمر متعارف علية دوليا. وهو عبارة عن سلع غذائية غير محددة تعتبر ذات ضرورة ماسة في حياة المواطنين – وذات نمط غذائي سائد – يتم الاحتفاظ بكميات منها تحت إشراف مباشر من قِبل الحكومات، وتكون الزيادة عن الاحتياجات الأسواق الآنية الطبيعية. وتستخدم في حالات معينة مثل: (الكوارث الطبيعية، الحروب، الارتفاع المفاجئ غير الطبيعي في الأسعار، تغير الطلب والعرض العالميين على تلك السلع في حالة عدم انتاجها محلياً).
ويتم تداول هذا المخزون دورياً بحيث تؤخذ منه كميات تعوض عنها بكميات مماثلة، وبحيث لا تفقد المادة الغذائية صفاتها الغذائية، ويتحدد كم ونوعية هذا المخزون بظروف كل دولة وقدراتها الاقتصادية والفنية.

الفجوة الغذائية
الفجوة الغذائية هي مقدار الفرق بين ما تنتجة الدولة ذاتياً وما تحتاجه إلى الاستهلاك من الغذاء، كما يُعبّر عنها أيضاً بالعجز في الانتاج المحلي عن تغطية حاجات الاستهلاك عن السلع الغذائية، والذي يتم تأمينه بالاستيراد من الخارج. والفجوة الغذائية – بهذا التعريف – تشمل الوضع الغذائي الراهن، وفق عادات الاستهلاك في الدولة، وبالمعدلات التي يتناولها الفرد من مختلف أنواع الأغذية، وهي بذلك لا تتطرق إلى تحديد الكميات الواجب تناولها من الغذاء، ولا إلى تحسين نوعية الغذاء المستخدم، من حيث السعرات التي يحصل عليها الفرد أو مكوناته من البروتين النباتي والحيواني، وإنما يؤخذ في عين الاعتبار تطور الطلب الطبيعي على الغذاء (نتيجة للعوامل الداخلية في الدولة) والتغير الذي يمكن أن يحصل على عادات الاستهلاك (نتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تسود الدولة).
وتتمثل خطورة الفجوة الغذائية التي تواجه البلدان العربية والإسلامية في ثلاثة عوامل رئيسية:
العامل الأول هو استحالة تأمين ا لبلدان العربية لما تحتاجه من مواد غذائية من مواردها المحلية، في ظل الظروف والمعطيات الحالية.
- العامل الثاني يكمن في توفير ما تحتاجه الأقطار العربية من غذاء تحت سيطرة بلدان قليلة في العالم، والتي قد تلجأ إلى استخدام الغذاء كسلاح اقتصادي أو سياسي.
- العامل الثالث هو ما تشهده أسعار المواد الغذائية من تقلبات كبيرة في الأسواق العالمية، وخاصة ما حدث خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً جنونياً مما أثر في المخزون الاستراتيجي لكثير من بلدان العالم الإسلامي والعربي، وما زالت الأسعار حتى الآن لم تصل إلى حد الاستقرار إذ هي في تغير مستمر، بل في ارتفاع مستمر، وهو ما يمثل التحدي الأكبر لبلدان العالم الثالث؛ فهي مطالبة بإيجاد التمويل اللازم لشراء المواد الغذائية وتأمينها مع تأمين المخزون الاستراتيجي داخل الدولة في نفس الوقت.
وإذا أخذنا العامل الأول، نجد أن البلاد العربية - مثلاً- لو أرادت أن تنتج المواد الغذائية الأساسية من مواردها المتاحة، ووفق المعطيات الحالية من انخفاض مستويات الإنتاجية وضعف استعمال تقنيات التكنولوجيا الحديثة في الإنتاج الزراعي، وضعف الحوافز والسياسات الزراعية التي تشجع الإنتاج، فإن إنتاج ما تستهلكه الأقطار العربية من الحبوب يحتاج إلى 44،8 مليون هكتار، وهذه مساحة تزيد بنسبة 15% عن مجمل المساحة المزروعة سنوياً في جميع البلدان العربية، حيث بلغ مجمل مساحات الأراضي المزروعة بجميع المحاصيل رياً ومطرياً في جميع الأقطار العربية ما مساحته 38 مليون هكتار سنوياً.
وإذا انتقلنا إلى العامل الثاني، نجد أنه نظراً للعجز الكبير الذي يعانيه الوطن العربي من الحبوب الغذائية، فإن المعونات الخارجية لكثير من الأقطار العربية من البلدان المتقدمة (بخاصة أميركا، ذات الفائض الغذائي الزراعي) تأتي على شكل مساعدات غذائية تعتبر الحبوب في مقدمتها. وقد أخذت هذه الزيادة في الاستمرار، ففي عام 1974 بلغ وزن هذه المعونات نحو 1,1 مليون طن متري، ووصلت في عام 1987 إلى 3,4 مليون طن متري وفي نفس العام 1987 حصلت مصر وحدها على نحو 13% من مجموعات تلك المعونات، وقد كان من نتيجة ذلك زيادة واردات الوطن العربي الغذائية من الأقطار الخارجية، مما أدى إلى انخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي للبلدان العربية من الغذاء حتى وصلت في مجملها عام 1987 إلى نحو 60% فقط، وهذا الوضع يحمل الكثير من المخاطر للأقطار العربية. فزيادة اعتماد البلاد العربية على المعونات الأجنبية، أو على تحقيق الاكتفاء من العالم الخارجي يؤدي إلى وقوع الوطن العربي تحت النفوذ والضغوط الأجنبية؛ فعن طريق رغيف الخبر تستطيع هذه الدول ممارسة الضغط أكثر من استعمالها لأي وسيلة أخرى.
أما بالنسبة للعامل الثالث، فإننا نجد أن التاريخ الحديث لأسعار الغذاء العالمية قد شهد تذبذباً كبيراً ففي منتصف السبعينات من القرن العشرين وصل ثمن الطن من القمح إلى حوالي 250 دولاراً, بعد أن كان 70 دولاراً في نهاية الستينيات من نفس القرن, ثم تواصل الارتفاع في عقد الثمانينات, ثم استقر نوعاً ما في التسعينيات, ثم ارتفع كثيراً في الألفية الثالثة (القرن الحادي والعشرين الحالي) حتى وصل سعر الطن من القمح في الأسواق العالمية إلى 300 دولار في عام 2003، مع الارتفاع المستمر في سعر الدولار نفسه، مما يدل على أن أسعار المنتجات الغذائية في الأسواق العالمية لا توحي بالأمن والاطئنان.

عوامل الازمة الغذائية في الأقطار العربية
هناك عوامل أدت إلى حدوث أزمة غذائية في الأقطار العربية، وفي هذا الإطار نستطيع التمييز بين جانبين رئيسيين لهذه الأزمة، الجانب الأول هو جانب الاستهلاك والجانب الثاني هو جانب الإنتاج.
1. الاستهلاك العربي من الغذاء: إن العالم العربي يتصف بارتفاع معدل نمو سكانه، حيث يصل هذا المعدل في المتوسط للأقطار العربية إلى حوالي 2.9 % سنوياً, ومن المؤكد أن هذه الزيادات السكانية الكبيرة تؤدي إلى زيادة حجم الاستهلاك الكلي للأقطار العربية من الغذاء, مما يساهم بالتالي في الأزمة الغذائية, ولكننا لا يمكننا المطالبة بالحد من الزيادة السكانية بصفة عامة بين أقطار الوطن العربي, فهناك أقطار عربية تعاني من قلة عدد السكان.
* 2. ويتمثل الجانب الثاني في انخفاض مستوى الإنتاج من الغذاء بسبب ضيق الرقعة الزراعية المنزرعة, وكذلك انخفاض مستوى الإنتاجية للمواد الزراعية, كما أن الدارس لمستويات الإنتاجية للموارد الزراعية في البلدان العربية يخرج باستنتاجين رئيسيين، أولهما: وجود تفاوت كبير بين مستويات الإنتاجية لمحصول ما, إما داخل البلد الواحد بين المناطق المختلفة, وإما بين الأقطار العربية وبعضها البعض. وثانيهما: أن مستوى إنتاجية الموارد الزراعية العربية – بصورة شاملة – يبدو دون مستوى الحدود الممكنة.

الحلول والبرامج والخطط
يرى العلماء أن كوكب الأرض يستطيع إطعام 47 بليون نسمة, بالمستويات الممتازة الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية، و157 بليون نسمة بمستويات التغذية في اليابان. ويرى علماء أخرون أن الأرضي الزراعية لو أحسن استغلالها لأطعمت عشرة أضعاف عدد السكان في العالم حالياً (6بليون نسمة), وبمستوى استهلاكي مرتفع.
إنها إذن مسألة عجز الانسان ومسؤوليته, لا فقر الطبيعة وشحها؛ فالعالم يُبرهن يومياً أن الكون لا محدود وموارده لا نهائية, وأن فكر وعقل الإنسان والجهد والعلم الذي يمتلكها في حوزته تمكنه من فتح أفاق أمامه لسد حاجته كلها والارتقاء بها وتوسيعها وتطويرها إلى أبعد من ذلك.

والحال أن الوضع الحالي يتطلب منا في بلدان العالم العربي والاسلامي أن نتحرك وبسرعة لمواجهة مشكلة الغذاء من خلال وضع برامج وخطط طموحة لتنمية زراعية ضمن خطط تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة ومستديمة, وذلك لتحقيق عدة أهداف من أهمها: الوصول لأكبر قدر ممكن من الأمن الغذائي في داخل بلداننا على كافة المستويات تمتد جهودها التنموية إلى كثير من دول العالم الاسلامي خاصة العالم العربي, واستناداً إلى القناعة التامة بأهمية وضرورة تحقيق الرخاء والأمن والخير والعدالة لكل البشر.
والجميع مدعوون إلى وضع الخطط للاستغلال الكامل للأرض من خلال زيادة المساحات المزروعة عربياً, وزيادة مردوداتها من خلال طرق الري الحديثة, واستعمال البذور المحسنة نوعاً وكماً, وتطوير الأبحاث الزراعية مع تعاون مراكزها المستمر والدائم للاستفادة من انجازاتها البحثية وتوفير الجهد, وتمتين الضوابط العلمية فيها. وبما أن وطننا العربي فقير بمياهه، فإنه يتحتم علينا إنشاء مركز عربي للاستشعار عن بعد عبر التقنيات الحديثة، يؤمن بدقة تحديد أماكن ومصادر تواجد المياه الجوفية حجماً وعمقاً, إضافة إلى اكتشاف جميع الثروات الباطنية. كذلك يجب علينا في بلدان العالم العربي والإسلامي، لمواجهة هذه الأزمة، العمل على تحقيق أمننا الغذائي من خلال تبني الخطط وتطبيقها في إقامة مشروع إقليمي للأمن الغذائي, باعتباره من الأولويات المطلقة في المرحلة الحالية. وبحسب اعتقادي، فإنه يجب البدء فوراً في توفير مخزون استراتيجي احتياطي من الغذاء في بلداننا عامة، وفي كل بلد على حده، والعمل على الاستثمار في انتاج الغذاء وخصوصاً زراعة القمح والأرز في دول من المستوى الإقليمي لبلداننا العربية والإسلامية خصوصاً في مصر, وشمال السودان, وباكستان. ونحثّ كذلك على تشجيع الاستثمار الزراعي في الدول التي تمتلك أراضي زراعية شاسعة مثل السودان, والعديد من الدول الأفريقية المطلة على نهر النيل, لتامين الغذاء بتكلفة مناسبة, ولتحقيق الأمن الغذائي. ومن الضروري تناول هذا الموضوع ضمن الخطط الاستراتيجية للامن الغذائي في البلدان العربية والإسلامية.
ختاماً، نستطيع أن نقول أن أمننا الغذائي بات واقعاً بين مطرقة الاحتكار للقوى المهيمنة في عالمنا الحالي وسندان التخلف والفقر والبطالة والاستبداد من النظم الحاكمة في بلدان العالم النامي خصوصاً البلدان العربية والإسلامية، وكذلك التمزق والاختلافات والمشاكل في هذه البلدان, وإذا لم نتدارك الموضوع بكل مسئولية وبسرعة فسوف يسبق السيف العذل ويسقط الجميع ويختلّ التوازن بشدة، ومن ثمّ تعمّ الفوضى ونندم وقت لا ينفع الندم، وبعد فوات الأوان.