الدبلوماسية التركية بين الهويتين الإسلامية والغربية
الثلاثاء, 27-يناير-2009
دلفين شتراوس -

عاد أحمد داود أوجلو، كبير مستشاري السياسة الخارجية لرئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، بعد أن أجرى محادثات محمومة على مدى ثمانية أيام في كل من القاهرة ودمشق لتقول له ابنته على سبيل التأنيب: "إنك تسافر يومياً، ولم نعد نراك، ولكن ما زال هناك أطفال يقتلون. إنك لا تقوم بعملك." هذا ما حكمت به ابنة العشر سنوات عليه، كما يقول. توضح هذه الحكاية الدافعَين اللذين يقفان وراء رد تركيا على الأزمة في غزة – طموحها لتزعم الجهود الدبلوماسية الرامية لوضع حد للعنف، ورد فعل عاطفي نابع من التأثر بمعاناة الفلسطينيين.
حظي حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم في الأشهر الأخيرة بالثناء على جهوده الدبلوماسية المكثفة التي أصلح من خلالها علاقات بلاده مع البلدان المجاورة وحاول أن يلعب دور صانع السلام في الصراعات الإقليمية.
فبعد أن دفعت باتجاه التعاون في منطقة القوقاز، وعقدت حواراً مع إيران حول سياستها النووية، وتوسطت بين إسرائيل وسورية واستضافت الاجتماعات التي عقدت بين الزعماء الباكستانيين والأفغان، فازت تركيا أخيراً بمقعد كانت تتمناه لمدة سنتين في مجلس الأمن الدولي – وهو ما اعتبرته تأكيداً لنفوذها الذي اكتشفته أخيراً.

لكن غزة أثبتت أنها أكبر اختبار لطموحات أنقرة حتى الآن – اختبار مكنها من فرد عضلاتها الإقليمية التي تطورت حديثاً ولكنه كشف أيضاً حدود نفوذها، وشكل ضغطاً على علاقاتها الوثيقة بإسرائيل وبين مدى صعوبة المحافظة على عدم تحيزها كدولة تحت ضغط الرأي العام . يقول سنان أو لجين، وهو دبلوماسي سابق يرأس مركز إيدام الفكري في إسطنبول: "كان وضعاً صعباً بالنسبة لتركيا التي لها علاقة متميزة مع إسرائيل ولكن لها ..... علاقات ثقافية وتاريخية مع بلدان الشرق الأوسط، وخاصة مع الفلسطينيين".
حرصت سياسة أنقرة على تجنب الانحياز لأي طرف في منطقة كانت تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، والاحتفاظ بتعاون عسكري مع إسرائيل وبعلاقات دبلوماسية مع الفلسطينيين على مدى عدة عقود. ولكن غضب الشعب التركي على عمليات سفك الدماء الأخيرة كان عارماً. فقد حلت التظاهرات الحاشدة محل الحفلات التي كانت تقام في الشوارع بمناسبة رأس السنة الجديدة عندما بدأت الهجمات. وكانت اليافطات التي حملها المتظاهرون في اسطنبول تعلن: "نحن أيضاً فلسطينيون" وكان سائقو التاكسي يضعون على سياراتهم صوراً لأطفال تشوهت أجسادهم.
واستجابة للمزاج الشعبي، قام اردوغان بجولة في بلدان منطقة الشرق الأوسط، وكان يتصل بالزعماء الأوروبيين يومياً، واستقبل خافيير سولانا، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وبان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة. ولكن على عكس طموحات تركيا في لعب دور الوسيط الإقليمي، فإن جهوده اتسمت بالانحياز للجانب الفلسطيني وانتقاده الصريح لإسرائيل – حيث طالب بطردها من الأمم المتحدة، واتهم زعماءها السياسيين باستغلال الهجوم على غزة لأغراض انتخابية ووصف الهجوم بأنه "وصمة سوداء في جبين الإنسانية".

كان رؤساء وزراء تركيا يدينون التصرفات الإسرائيلية في الماضي. ولكن الانتقاد الذي وجهه لها أردوغان يحمل طابع التحدي الشخصي. فقد صرح بأن عدم قيام إيهود أولمرت بإحاطة تركيا علماً بخططه – رغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي زار أنقرة قبل بضعة أيام من شن الهجوم – ينم عن "عدم احترام لتركيا". إن توسط تركيا بين إسرائيل وسورية بهدف إثبات أنها جديرة بأن تكون شريكاً للاتحاد الأوروبي وللولايات المتحدة أصبح دخاناً الآن، حسب تعبير دبلوماسي غربي، مضيفاً أن حساسية أردوغان للشارع التركي، وشعوره بالإهانة لأن إسرائيل لم تكافئه على جهوده، هما السبب في ردة فعله.
ولكن رد أردوغان العاطفي أضر بمركز تركيا كمحاور محايد في المنطقة، وكان موضوعاً لتعليقات الصحف الإسرائيلية" وتقديم احتجاجات للسفير التركي في تل أبيب وأثار غضب مجموعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة. ولكن من غير المرجح أن يتسبب هذا الأمر في قطيعة طويلة مع إسرائيل. إلا أن بعض المحللين يحذرون من تعرض علاقات تركيا مع الولايات المتحدة للخطر إذا خسرت تركيا دعم المجموعات اليهودية التي ساعدتها في السابق على تجنب مطالبات مجموعات الضغط الأمريكية باعتبار المذابح التي تمت في عهد الإمبراطورية العثمانية جرائم إبادة جماعية. يقول فادي حاكورة في "شاثام هاوس" في لندن:"إن قوة السياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط نابعة من أن لها علاقة مع جميع الأطراف الرئيسة ولكن عبر موقفها المعارض لإسرائيل، تكون قد أضرت بقدرتها على التوصل إلى اتفاقية سلام".

وهناك مشكلة أخرى وهي أن السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية متهمة، في نظر المعلقين الأتراك، بأنها تنبع من إحساس الحزب بالهوية الإسلامية: إذ يقول البعض إن الحزب يريد العودة إلى الدور العثماني الذي يرمي إلى تزعم العالم الإسلامي.
ولكن حتى لو لم تلعب تركيا الدور القيادي في وقف العنف في غزة، فإنها ربما لا تزال قادرة على المساعدة في التوصل إلى تسوية نهائية – عبر توظيف علاقتها بإسرائيل وعلاقاتها السياسية مع حماس. فقد أوضح وزير خارجيتها علي باباكان بجلاء أن بلاده مستعدة لإرسال قوة مراقبة إلى غزة، رغم أن الدبلوماسيين يفضلون الحديث عن مساعدة فنية. وينفي السيد داود أوغلو المزاعم التي تقول إن ولاء تركيا بدأ يتحول من الولايات المتحدة وأوروبا إلى العالم الإسلامي. إذ يقول في هذا الصدد:"ليس هناك تحول في محور السياسية الخارجية لتركيا. بل إن ما يحدث في هذه المنطقة يؤثر فينا. لذلك لا نستطيع السكوت ولا الانتظار، وينبغي أن نعمل بنشاط".