الطريق إلى بناء الدولة الوطنية العربية
الثلاثاء, 27-يناير-2009
د. يوسف سلامة -

مما لا شك فيه أن انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية التي كانت تدور في فلكه، وانتهاء الحرب الباردة التي كانت تتحكم بالعلاقات بين القطبين الكبيرين: القطب الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والقطب الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي، قد أدى إلى ولادة حقبة تاريخية جديدة محكومة من جانب ما اُطلق عليه اسم (القطب الأوحد) الذي لا نزاع في أن الولايات المتحدة الأمريكية هي وحدها التي تنفرد بلعب دوره في الحقبة التاريخية الراهنة. وقد نجم عن هذا التحول السياسي الخطير تأثيرات لا حدّ لها طالت آثارها كل الدول والشعوب التي اضطرت بصورة أو بأخرى إلى أن تتخذ مواقف متباينة تتفاوت بتفاوت مقدرتها على حفظ مصالحها، وربما هويتها الثقافية، ومن ثم سيادتها الوطنية، من حيث هي دولة، داخل رقعة جغرافية محددة.وهذا معناه ببساطة أن واحدة من أهم النتائج التي ترتبت على ظهور القطب العالمي الأوحد تتمثل في تقلص السيادة الوطنية بالنسبة للدولة، أي دولة.
وبصرف النظر عن حجم هذه الدولة وعدد سكانها وقدراتها العلمية والتكنولوجية ومستوى انتاجها الاقتصادي، تكاد جميع الدول أن تشترك في المصير نفسه، ولكن مع تفاوت في الدرجة. فلا شك أن الصين، وهي الدولة العملاقة من حيث عدد السكان والمساحة وربما التقدم العلمي والاقتصادي أيضاً ـ قد عانت من السياسة المتفردة للولايات المتحدة بقدر ما، وإن لم تصل هذه المعاناة إلى الحد الذي ينطبق على واحدة من جمهوريات أمريكا اللاتينية الصغيرة. أما الدولة العربية، بما هي دولة، فقد أخذت تعاني من تقلص السيادة الوطنية تحت ضغط المطالب الأمريكية المختلفة التي توجهها الإدارة الأمريكية كل يوم تقريباً إلى معظم الحكومات العربية، تلك المطالب التي تبدأ بضرورة إعادة النظر في المناهج الدراسية والتربوية وانتهاءً بأشد القرارات السياسية حساسيةً وخطورةً، من مثل محاولة فرض الإدارة الأمريكية لتصورها لما يُسمى بـ (السلام) وفرض هذا التصور غير العادل على الأطراف العربية المختلفة وعلى رأسها الطرف الفلسطيني.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما عاناه الوجدان الأمريكي من صدمة شديدة زلزلت كيانه، اشتد ميل القطب الأمريكي إلى مواجهة كل العناصر التي تصورت الأجهزة الأمريكية المختلفة ـ بحق وبغير حق ـ أنها المسؤولة عن تدبير وتنفيذ الأحداث الإرهابية التي شهدتها ولايتا نيويورك وواشنطن، وأصابت الوجدان الأمريكي بجرح عميق عندما وُجّهت هذه الضربات الإرهابية المدمرة إلى رمز القوة الاقتصادية في برجي التجارة العالمية في نيويورك، وإلى رمز القوة العسكرية في البنتاغون في واشنطن.
ومما يؤسـف له حقاً أن (الدولـة العربيـة)، في أكثر الأحيان، قد أبدت رغبة في التكيف مع المتطلبات الأمريكية ومع الشروط التي اشترطتها الولايات المتحدة على الدولة التي تريد أن تحتفظ بعلاقات طيبة وحسنة مع الطرف الأمريكي. ولقد اتخذ هذا التكيف صوراً وأشكالاً متعددة عبّرت جميعها في نهاية المطاف عن اعتراف الدولة العربية، بصورة أو بأخرى، بتقلص سيادتها على أرضها وشعبها في الداخل، وبتقلص حقها في إقامة العلاقات الدولية على النحو الذي تراه هذه الدولة أو تلك متلائماً مع مصالحها أو متفقاً معها. وحسبنا أن نذكر من صور التكيف تلك ضروب التعاون الأمني مع الإدارة الأمريكية، واستعداد الكثير من الدول العربية للشروع في إعادة النظر في المناهج الدراسية الوطنية. وليس من شك في أن أوجه التكيف هذه، وغيرها كثير، إنما تدل على تقلص خطير لمبدإ (السيادة الوطنية) الناجم أصلاً عن الانفصال شبه المطلق بين الشعب والحكومة، الذي انتهى في الغالب الأعم إلى إلغاء دور الشعب، مما جعل القوى الخارجية أقدر على فرض شروطها على الحكومات غير المدعومة بشعوبها.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن السؤال الذي لا بدّ من طرحه يتعلق بالشروط والإجراءات والأساليب التي يمكن للدولة العربية، إذا ما سلكت وفقاً لها، أن تُعيد بناء هياكلها الاقتصادية والسياسية والثقافية على نحو يسمح لهذه الدولة في ما بعد بالإعلان عن أنها قد شرعت في انتاج صورة جديدة للسيادة الوطنية، أو هي قد شرعت في إقامة دولة مختلفة عن الدولة السابقة، أعني أنها قد شرعت في بناء (الدولة الوطنية).
ونحن نرى أن الدولة تكون وطنية بقدر ما تكون دولةً للمواطنين جميعاً توجد من خلالهم وبهم، ولا تكون فوقهم أو أمامهم أو وراءهم، وبذلك فقط تكون ملتحمة بالبنية البشرية التي توجد الدولة من خلالها مثلما أن الدولة ذاتها تستمد كل قيمتها ومعناها من كونها التعبير الأرقى عن وحدة الشعب الذي ليس للدولة من معنىً لوجودها خارج الوعي الذاتي لهذا الشعب الذي ينظر إلى هذه الدولة على أنها متطابقة ـ بصورة جدلية ـ مع وعيه الذاتي بذاته. ولا يعني هذا الأمر هنا أن المسافة تنعدم بين الشعب والدولة إلى الحد الذي تصبح معه ذرات الوعي الذاتي الفردية ـ المتنافرة والمتصارعة بسبب تنوعها وتضارب مصالحها ـ كتلةً واحدةً لا فرق بين أفرادها.
والحقيقة ان (الدولة العربية) ـ ولالاطلاق لا يعني الاستثناء ـ قد كفّت عن أن تكون (دولة وطنية) عندما أصرت هذه الدولة على أن تكون فوق الناس جميعاً، وعلى أن تطردهم من العمل السياسي كي تحتكره هي أو لصالح من يتصورون أنهم الدولة، وأفرغت كل مؤسسات المجتمع المدني من حيويتها وفاعليتها، وألغت كل حق للأحزاب السياسية في المعارضة وتوجيه النقد ومراجعة القوانين.
وهكذا ابتعدت (الدولة العربية) عن أن تكون دولةً وطنية مما يُعيد إلى أذهان مئات الملايين من العرب قولة لويس الرابع عشر التي أطلقها قبل قرون وهي: "أنا الدولةُ والدولةُ أنا" ولكن ل بوربون قد ذهبوا إلى غير رجعة عندما انتصرت الثورة الفرنسية عام 1789م وأعلنت عن الحقوق المتساوية للمواطنين بل وحتى للبشر جميعاً متمثلة في الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن وعن حق البشر جميعاً في الإخاء والحرية والمساواة.
مما تقدم يتبين لنا أن أول شروط قيام الدولة العربية الوطنية يتمثل في إقامة عقد اجتماعي جديد تعترف الدولة بموجبه بالحقوق الطبيعية لمواطنيها. وبمقتضى هذا العقد تعترف الدولة أن شعبها مجموعة من المواطنين المتساوين أمام القانون وليسوا قطيعاً من رعايا يقودهم الحاكم حيث يشاء ويسومهم من ألوان العذاب ما يشاء.
إن الدولة لن تكون عصرية ولا وطنية ما لم تكن دولةً تُقيم وزناً لشرعة حقوق الإنسان ولحق كل فرد من مواطنيها بأن يلعب دوراً متساوياً مع غيره من المواطنين في صياغة حاضر الدولة ومستقبلها، بعيداً عن الحسب والنسب والطائفة والعشيرة. وبكلمة واحدة إن الديمقراطية هي شرط الحياة الوطنية كما هي شرط الحياة العصرية. وعلى ذلك فالشرط الضروري ـ وغير الكافي في الوقت نفسه ـ لقيام دولة عربية وطنية يتمثل أولاً وقبل كل شيء في إقرارها بحق مواطنيها بإعادة صياغتها على النحو الذي يتفق وتصوراتهم ومصالحهم وتكوينهم الروحي. وبذلك يكون اطلاق الحريات العامة والخاصة، وإلغاء العمل بكل القوانين الاستثنائية التي قيدت حرية الوطن والمواطن لعقود طويلة من الزمن لمصلحة الحاكم الفرد، وهي الخطوة الأولى التي من الممكن للشروع فيها أن يسمح بالتفكير بالخطوات التالية التي تفضي إلى إعادة بناء الدولة العربية بحيث تصبح دولة وطنية.
على أن البنية السياسية المتحررة لا تكفي وحدها، كما قلنا، لبناء دولة عصرية ووطنية، بل لا بدّ من أن ينضاف إلى ذلك تحرير شامل لكل الطاقات الفردية والاجتماعية في ميدان الانتاج الاقتصادي. وبقدر ما يكون البناء الاقتصادي للدولة ذاتياً وملبياً لحاجات أكثرية أفراد المجتمع، تتعزز البنية السياسية للدولة والمجتمع.
إن العدالة الاقتصادية لا تتعارض مع الحرية الاقتصادية للفرد مثلما أنها لا تتعارض مع الحياة الديمقراطية للمجتمع. بل إن المجتمع الذي يعبئ كل طاقاته ولا يهمل أي جانب منها هو المجتمع الأقدر على تحقيق الديمقراطية السياسية وتلبية الحاجات الاقتصادية المشروعة للجميع. فتوخي العدالة شرط جوهري في بناء الدولة الوطنية، وذلك لأن من لا يشعر بأنه شريك في المغانم لن يقبل تحمل المغارم. وإذا كانت الدولة العربية اليوم تطلب إلى مواطنيها تجرّع المغارم مبررةً ذلك بشعارات ايديولوجية زائفة فإن هذا المواطن ـ وإن كان ضعيفاً ومستكيناً يتقبل هذا الظلم راغماً وعن غير اختيار ـ فلا بدّ أن يصل إلى لحظة الرفض الكبير والسلب الجذري اللذين قد يُطيحان بكل ما بنته الأجيال من منجزات (متواضعة) في لحظة واحدة أو في ما يقرُب من لحظة.
وليس ثمة من يستطيع اليوم أن يدافع عن فكرة الدولة الوطنية معزولة عن الدولة العصرية. والدولة العصرية بطبيعتها تولي المعرفة العلمية اهتماماً يفوق اهتمامها بأي قطاع خر من قطاعات الحياة في الدولة. ولعل نظرية المعلومات وأنظمة الاتصال المختلفة قد أصبحت عناصر يصعب تخيل أي دولة يمكن أن تقوم بالفعل من غير أن يكون هذا البعد أساسياً في بنائها. فأنظمة الاتصال لا تسمح للناس بأن يتعرفوا على ما لدى الآخرين فقط، بل هي تسمح لهم أيضاً بأن يقدموا صورةً عن أنفسهم وعن معارفهم لكافة الناس خارج الحدود السياسية التي ينتمي إليها هذا المواطن أو ذاك في هذه الدولة أو تلك. ومن شأن أقنية الاتصال وتدفق المعلومات وحرية تبادل المعلومات أن تنتج ذهنية جديدة، ذهنية نقدية منفتحة متحررة إلى أبعد حد من ماضيها، ومنفتحة إلى أبعد حد أيضاً على المستقبل، الأمر الذي يعني أن مفهوم المواطَنة قد أصبح أكثر تعقيداً وغنىً من أي وقت مضى. وتملك الشعوب العربية على اختلافها كفاءات هامة في الميدان المعلوماتي الذي نتحدث عنه.
ثمة أمر أخير ليس بوسعنا أن نهمله ونحن نتحدث عن بناء الدولة الوطنية. وذلك أن التفاوت الهائل في الدخل بين المواطنين، والتباين في مستوى التقدم بين مناطق الدولة المختلفة من شأنه أن يُلقي بظله على فكرة الدولة الوطنية. فما مصلحة البدوي المعزول في أعماق البادية محروماً من كل خدمة متوفرة في المدن والمناطق الحضرية في أن يكون مواطناً في هذه الدولة أو تلك. وفي هذا الإطار أيضاً حريّ بالدولة كي تكون وطنية أن تُعيد تأهيل اقتصادها ونظامها الاجتماعي كي يندمج فيهما كل المهمّشين والمُفقّرين والمعزولين. فردم الهوة بين الأغنياء والفقراء، وبين المناطق المحظوظة والمناطق المحرومة أو بين مناطق النور والظل شرط جوهري لتحول الدولة إلى دولة وطنية.
ونحن نعتقد أن الدولة وحدها غير قادرة على النهوض بكافة ما هو مطلوب حتى تصبح دولة وطنية وعصرية، وحتى تستطيع أن تُدمج مناطق الظل بمناطق النور أو أن ترتقي بالمستوى الثقافي والاقتصادي للفقراء والمهمّشين إلى المستوى الذي تتطلّع إليه كلّ دولة وطنية ديمقراطية. ولذا يتحتم على الدولة ـ إذا ما أرادت أن تكون وطنية ـ أن تُطلق الحرية لفاعليات المجتمع المدني الخلاّقة والمختلفة حتى يكون عمل المؤسسات المدنية مكمّلاً لعمل الدولة وجهودها لا مناقضاً لها ومتضارباً معها. وهذا يعني أن الانفتاح والديمقراطية سيظلان هما القاعدة الأخيرة لكل جهد يتطلع إلى بناء (الدولة الوطنية) بالجهود الذاتية.