الخيالي والافتراضي في الثقافة العربية المعاصرة
الأربعاء, 21-يناير-2009
د. كمال عمران -

المدخل 1:
للثقافة العربية الإسلامية مرتكزات يمكن أن نوجزها في نقاط :
النقطة الأولى: هي ثقافة الكلمة وقد اضطلعت فيها اللغة بدور كبير حتى عدت اللغة سحرا، وقد قيل "إن من الكلام لسحرا"، وانعكست هذه الخاصية الأولى في كل الأجناس الإبداعية التي عرفتها هذه الثقافة وليس من ريب في أنّ الشعر بين كل الأجناس والفنون هو رأس الإبداع وذروة سنامه إذ هو ديوان العرب وسجل مآثرهم. ويتسّنى أن نحشر كلّ الفنون ذات الصّلة بالكلمة في هذا الإطار كالخط والنقش والحياكة...
كما عدّت اللغة عند العرب أداة للخلق في ميدان المعرفة فبها استنبط العرب المسلمون قديما علوم القرآن وعلوم الحديث وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وعلم الكلام داخل ما كان يطلق عليه العلوم الملية. ونتج عن استمداد المعرفة باللغة علم جليل هو البيان.
وبقيت اللغة في العصر الحديث عنصرا ثابتا في نحت الهوية العربية, اتفق عليها أهل الملل والنحل من الفلسفات والأيديولوجيات المستحدثة. فمثلت اللغة النواة في توحيد العرب وجدانيا وثقافيا مهما تفرقوا أيدي سبإ،.
النقطة الثانية: هي ثقافة العلم، وكانت العلوم عند العرب على نوعين، العلوم الشرعية والعلوم الحكمية وبينهما "علوم" مذمومة هامشية، وإذا كانت العلوم الأولى منوطة بعهدة الفقهاء أو هي آلت إليهم بحكم أسباب ليس المجال للوقوف عندها في هذا السياق. فإنّ العلوم الثانية هي التي تنطق عن خصوصية لافتة لا نرى أنّها، في مستوى المرجعية والمنهجية ، بمنأى عن العلوم الشرعية إذ إنّ التداخل حصل والتجاور أفضى إلى نسب حميم. لعل أبرز خواص العلوم الحكمية من رياضيات وطبيعيات في حقل عالم الشهادة ومن منطقيات وإلاهيات في حقل عالم الغيب، أنّها لم تنقل المعرفة والعلوم عن الإغريق والهنود والفرس نقلا آليا، لقد لطّف العقل العربي من التجريدات وأنزل العلوم إلى حيز الممارسة والتطبيق وليس بعيدا أن تكون الوشائج مع المبدإ القرآني المتمثل في التلازم بين الإيمان (نظريا) والعمل (تطبيقا) وشائج قريبة ولن نجانب الصواب إن أكدنا أن التحري في التعبد (أوقات الصلاة، رؤية الهلال، الزكاة المواريث...) كان سببا أصيلا في دفع البحث العلمي إلى النتائج المعلومة وقد أحصاها عدّا وتفسيرا الأمريكي جورج سارتن G.SARTON في كتابة تاريخ العلوم THE HISTORY OF SCIENCES بعد أن تفطن إلى المميزات المتصلة بالعلوم عند العرب.
للثقافة العربية الإسلامية، في أصولها هذا البعد الاستنباطي الاجتهادي ويمكن أن نلخص المنهج المتبع فيها من خلال رؤية الجاحظ للمعرفة العلمية فقد انتبه إلى العناصر التالية:
• الخبر القاهر: لا تؤخذ المعرفة نقلا إلا بالسند القوي وبالمتن المقبول.
• العيان الظاهر: للحواس، بدءا بالعين، دور في المعرفة كبير وهو يستدعي منهجية دقة الملاحظة وعمق التجربة والتوكل على الاختبار.
• العقل المستدل: وهو غاية المنهجية ومحك المعرفة وغربال العلوم. هذه العناصر متآزرة جعلت للثقافة العربية الإسلامية طاقة على إثراء الثقافة الإنسانية.
يمكن اعتبار هذه العناصر مرتكزات لآلية التلقي المعرفي في الثقافة العربية الإسلامية زمن إنتاج المعرفة ونشر العلوم ولم تكن الفواصل في تلك المرحلة بين المعرفة والعلم واضحة، فتطوّر الحقلان بشكل متواز بناء على اتجاهين. الأول أفقي صاغ علاقة عضوية بين التفكير والتعبير، فاستجابت اللّغة لسجلات الكلام الشرعي والعلمي والتاريخي وسائر أنماط المعرفة المنتشرة عند العرب. والثاني عمودي جعل الصلة بين المعرفة والبيئة صلة جدلية أدت إلى الإثراء والازدهار فظهرت المدارس في فنون العلوم المختلفة ومراكز الطّب في أنحاء البلاد الإسلامية كلها.
النقطة الثالثة: هي ثقافة المثاقفة وهذا يعني أن النقطتين السابقتين قد ولدتا في الثقافة العربية الإسلامية الانفتاح على الثقافات الأخرى، وقد ساهمت في هذه الصفة أسباب كثيرة منها الدعوة إلى الدين الجديد ومنها الفتوحات والمغازي ومنها ولادة ظاهرة حضارية نلخصها في المركزية الإسلامية انطلاقا من دمشق في مرحلة وبغداد في مرحلة ثانية فضلا عن عواصم الأقاليم كالقيروان والقاهرة وقرطبة وفاس وعلاوة على الخصب العلمي في البلدان القاصية كبخارة وسمرقند وخراسان ... ولعل أبرز سمة لهذه المثاقفة أن الاحتكاك بين الأجناس أفضى إلى توليد عقلي اتسع للمعارف والعلوم الموروثة أو المستحدثة في تلك العصور. 

المدخل 2:
إذا جاز أن نعتبر النقاط الثلاث المذكورة العنصر الحي المتحرك في نواة الخلية الثقافية فإن المحيط أو "السيتوبلازم" لم يسلم من دواعي الوهن ونكتفي بظاهرة واحدة للإحالة إلى ما ألم بالثقافة العربية الإسلامية من النوائب. فقد مثل التقليد أبرز عائق حال دون النواة أن تجد السبيل إلى مزيد من الفاعلية. وللتقليد مداخل عديدة منها ما اتصل بالعلوم الشرعية ومؤاده التسليم بالعلم والمعرفة عند "الرجال" أو المقلدة كما سماهم محمد بيرم الخامس في رسالة له موسومة بـ " تحفة الخواص في حل صيد بندق الرصاص". والملقدة هم الذين ارتضوا نتائج ما وصل إليه العلماء المجتهدون اجتهادا مطلقا أو اجتهادا مقيدا بالمذهب، وهي النتائج التي ترعرعت في بيئة عمّ فيها الاستبداد وقل فيها الإنتاج وتعددت معها الوثبات. ومن مداخل التقليد ما اتصل بالعلوم الحكمية وقد جفّ معين العطاء عندما نكّبت حركةالعلم عن الاكتشاف واقتحام أبواب المعارف النافعة وولى شطره نحو الهامشيات والعلوم المذمومة كما كان يسميها القدامى ومنها التنجيم والسحر والطلسمات ونذكر على وجه الخصوص الكيمياء Alchimie الساعية إلى تحويل المعادن إلى ذهب. ومن مداخل التقليد ما اتصل بالإبداع وقد وجدنا أبا العلاء المعري في شعره ونثره من أبرز من رفضوا الظاهرة ومن أفضل من دعوا إلى العقل.
فظاهرة التقليد شاملة في مواطن العطاء الذهني وقد لاقت إطارا ملائما في السياق المادي وسبب ذلك المجاعات والأوبئة والفتن أي ما يمكن أن نضعه في خانة السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق وخاصة في خانة علم الديمغرافيا. وهل يجوز للنواة أن تزهر في ضيق محبس محيط مترهل ؟ فلا غرابة أن يقترب ولاة الأندلس إلى الرعية بقتل أهل الفلسفة ولا غرابة أن ينحط علم الكلام إلى علم غير واف بالمقصود ولا غرابة أن تنتشر الطرقية وأن تصبح رمزا للتدين الذائع. والناظر في حركة التاريخ في الثقافة العربية الإسلامية يفهم الدوافع التي جعلت بعض الدارسين المعاصرين يصلون إلى نتيجة استنبطوها من أهل التقليد وملخصها ان التقدم لا يكون ألا نحو الأسوإ. 

الإشكالية الأولى : إشكالية حال
ما يجمع بين خصائص الثقافة العربية الإسلامية في مرجعيتها وآليتها - كما الثقافات الأخرى إلى حدود اندفاق التكنولوجيات المتطورة- هو الخيال.
الخيال هو الملجأ من الواقع إلى ما يخالف أو يتجاوز أو يدحض وينفي. الواقع الماثل محمول بالمعرفة السائدة وبالسلوكات والممارسات وله، دوما وفي الصيغة الطبيعية
أو العادية، توق إلى المغاير الأفضل وهذه الملاحظة صحيحة بالنسبة إلى الإبداع بالدرجة الأولى والعلوم المعارف بصفة عامة. وللصلة بين الخيال والواقع قوانين وضوابط لم توفق استثناءات أهل العبقرية والذكاء الخارق أن تتخطاها فالمساحة بينهما تعظم أو تصغر بحسب مقتضيات المعرفة وطاقة الثقافة على الاختراق أو الامتثال.
ولنا أن نفيد في هذه الاتجاه من ملاحظة أبداها حسين مؤنس في مقالة له عن الأدب العربي مؤداها أن الخيال لا يتسع والإبداع لا يينع في البيئة العربية الإسلامية إلا زمن الوهن السياسي فالخيال الخلاق والاستبداد السياسي نقيضان شديدان. ويمكن أن نقيس على ذلك أن الخيال العلمي الشرعي والمؤسسة الدينية القاهرة نقيضان وأن الخيال العلمي الحكمي والتواطؤ بين السياسة والتدين نقيضان أيضا. على هذا النحو عدّ القرن الرابع الهجري قرن الوهن السياسي، العصر الذهبي أو زبدة الحقب. وعدّ ابن رشد فيلسوف وفقيها، خارجا عن السنة الثقافية المتبعة. وكف العلماء عن الاكتشاف عندما أغلقت أبواب العلم والاختلاف فيه كما قرر ذلك الغزالي في المنقذ من الضلال وفي غيره من مصنفاته وعدّ الغزالي بذلك حجة الإسلام ( !).
وليس الأمر مخصوصا بالثقافة الإسلامية إنه كلّه من العالم المغلق حسب عبارة ألكسندر كويري A Koyré في كتابه من الكون المغلق إلى العالم اللامنتهي Du monde clos à l univers infini - إنه شامل للثقافات ونذكر منها قبسات:
- فقد أثر عن شارلماني Charlemagne أنه توجس خيفة من ساعة أهداها إياه هارون الرشيد. ألم يكن خيال الفرنسيين عبر ملكهم ضيقا فلم يدرك الملك حقيقة الساعة فرفضها عقله وخياله وواقعه.
- ألم ينزعج الضمير الأوروبي ثم الإسلامي عندما اكتشفت الطباعة فظن بها الناس الظنون إلى درجة الربط بين رجس الشيطان والطباعة.
- ألم تطرح الفتاوي الإسلامية سؤالا عاتيا ينم عن النشاز بين الخيال والمكتشفات من جهة والواقع والخيال من جهة ثانية. كذا الأمر عند اكتشاف الترنزيستور والتلفون والتلفزيون إلى درجة أصبح فيها تكذيب خبر نزول الإنسان على القمر أقرب و أوضح من قبوله.
- ألم تطرح الأسئلة الرافضة عندما ظهرت فكرة الطفل الأنبوب ...
- هل نرجع التردد أو النشاز إلى الفقر المعرفي والتخلف ... أم نضيف إلى ذلك الهوة الفاصلة بين الخيال الخلاق والخيال المستكين.
إن الدراسات اليوم أدركت أن الإنسان يحتاج إلى زوايا متعددة أو مختلفة فأصبحت موجهة إلى المخيال واللامعقول والهامشي بوصفها رجع صدى للخيال وقدراته. فلم تكتف بالعقل وبالموضوعي وبالعقلاني وإن هي شروط في الابتذاء
ما هي إشكالية الخيال/الواقع في حال الثقافة العربية الإسلامية.
ننتخب عددا من العناصر لرصد الجوانب المحيطة بهذه الإشكالية.
العنصر الأول هو ثنائية الأصالة/الحداثة : ألم تكن هذه الثنائية أساس التفكير عند المفكرين العرب والمسلمين منذ بدايات النهضة وقد مرت بمراحل نجملها في ثلاث.
- مرحلة الدهشة : والراجع إلى عجائب الآثار لعبد الرحمان الجبرتي المعاصر لحملة بونابارت يدرس مدى عمق الأسئلة المتعلقة بالتفاوت بين مظاهر التفوق الحضاري العسكري والسياسي … (الحداثة) عند الفرنسيين من جهة وعلامات الوهن والضعف (الأصالة) عند المصريين فكانت الدهشة والانبهار السبيل الأولى في التعامل من الثنائية.
- مرحلة الاقتباس : وهي وعي ظهر عند عدد من المصلحين كخير الدين التونسي مقتضاه اقتباس التمدن الأوروبي بما يوافق الشريعة الإسلامية.
- مرحلة التنضيد: وهي التي جعلت الأصالة مطية ثقافية صالحة للهوية والحداثة الطريق إلى النمو والتقدم. ولنا مشاريع في هذا الصدد تتفاوت الحدة فيها من الحفاظ على التوازن بين الأصالة والحداثة الى الإخلال بالدعوة إلى التحديث الصرف (مشروع : طيب تيزيني - سمير أمين - عبد الله العروي - محمد عابد الجابري ...).
هذه المراحل كلها تؤدي إلى نتيجة هي الإطناب في معالجة أطراف الثنائية دون الحسم بالأخذ الفعلي بأسباب التقدم.
العنصر الثاني مفاصل الزمن : الماضي والحاضر والمستقبل إذ لم يواكب الخيال العربي الإسلامي نسق العصر ؟
نجد في كتاب الإتحاف لابن أبي الضياف دعوة إلى التعلق بروح العصر، ونقف مع كتاب أبي القاسم الشابي الخيال الشعري عند العرب صرخة مدوية تستدعي العرب إلى خيال حي بدل الخيال الضحل.
أليس من المنافذ إلى فهم الإشكالية اعتبار ما للزمن من أثر في الذهنية العربية وهي ذات وجوه ثلاثة جوهرية:
- أثر التنافر
لقد أطلق على الزمن عند القدامى الدهر وهو عندهم هادم اللذات.
وقال المتنبي:
أطاع خيلا من فوارسها الدهر
وحيدا وما قولي كذا ومعنى البصر
وفي الحديث القدسي: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر.
- أثر التقديس
وهو الأثر الجاثم على العقول والمخيال ومؤداه أن السابق افضل من اللاحق وأن القديم أحسن من الجديد فيكون المثل الأعلى كامنا في الماضي وقد غار الخوض أو الغوص في المستقبل في هذا السياق. وكثيرا ما بررت الثقافة العربية الإسلامية أدران الحاضر بالانزياح عن الماضي.
- أثر الانزياح
وهو الموقف المحيل إلى لا مبالاة في التعامل مع الزمن انعكست بشكل قوي في السلوك المادي وفي الحياة اليومية ضمن الثقافة العربية الإسلامية ومؤداها أن قيمة الوقت لم تحافظ على معناها الإجرائي وأنّ فكرة اللحاق بالبلدان المتقدمة تكنولوجيا وعلميا ومعرفيا غدت العزوف عن التعلق بالوقت وأوشكت أن تورث ذهنية عبثية جعلت الفرد المنتسب إلى هذه الثقافة ميالا إلى التلهي بنقل منجزات الحضارة والتلذذ بها بعيدا عن وعي التاريخ ووعي الزمن ووعي الميقات. فأصبح الانزياح عن فعل الزمن علامة إحباط أو ذهول
خلاصة القول هو إن الثقافة العربية الإسلامية غالبا ما احتمت بالماضي وتعالت على الحاضر وأغمضت عن المستقبل.
الإشكالية الثانية: إشكالية رهان
قال موران PAUL MORIN في بدايات القرن الماضي إنّ القرن العشرين قد خلق رذيلة وحيدة، إنّها السرعة. فما القول في بداية القرن الواحد والعشرين وقد أصبح العالم متسارعا مشبّكا؟
لهذا الملمح الجديد صلة بهذه الإشكالية وقد رأينا أن نخوض فيها من خلال عناصر متظافرة.
العنصر الأوّل ينطلق من الخيال. فقد كانت الإشكاليات التي طرحنا في التحليل السابق قائمة على علاقة بين الواقع والخيال مبنية على الكون فالواقع كامن في الخيال ولا طاقة للإنسان - في الثقافات داخل البنية المعرفية القديمة - بالخروج عن العلاقة وبتجاوزها، ويمكن أن نتعرض إلى مراحل في النمو تعتبر السبب في تغيير نسق العلاقة واتجاهها.
- الطباعة: وقد حققت للكتاب انتشارا في الزمان والمكان اقتحم على الموت وعلى الحدود السلطان المؤذن بالفناء.
- البريد والهاتف: وقد جعلا العالم أصغر والمسافات متقاربة.
- وسائل النقل: السيارة - القطار - السفينة البحرية - الطائرة - الصاروخ وقد جعلت الاتصال والتواصل بين البشر أيسر.
- وسائل الاتصال وقد أوجدت زمنا جديدا غير الزمن الحقيقي بدّل المشهد الثقافي البشري تبديلا.
ولهذه الظواهر والمكتشفات دلالات متصلة بالثقافة العربية الإسلامية نحصرها في ملاحظات.
كل المكتشفات المنبثقة عن رحم السرعة - رمزا - دائرة في إطار مكاني وزماني خارج عن الثقافة العربية الإسلامية. فقد توقفت هذه الثقافة منذ القرن الخامس الهجري/ القرن الحادي عشر الميلادي إذ راعينا الحقيقة التاريخية ومنذ القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي إذا جارينا العاطفة وتفاءلنا تفاؤلا كبيرا، عن الإبداع والعطاء في المعرفة والعلم. فقد اتخذ العلم قبلة جديدة هي أوروبا ثمّ الغرب باعتبار الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وتحوّل العلم غير العلم.
كل المكتشفات الجديدة كانت نتيجة طبيعية لتطوّر شامل معقول في أوروبا والغرب علميا وفلسفيا وتقنيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا فهل كانت البيئة العربية والإسلامية بيئة مستوعبة لتلك المكتشفات وما يحيط بها من المرجعية الفكرية أم ناقلة؟ الجواب قطعي في عدم الاستيعاب في القرن 19م وهو نسبي في القرن 20، وهو جزئي في القرن 21 م على أنّ القدرة على التحكم في المكتشفات عكسية فقد كانت كبيرة في القرن 19 م قرن الكيمياء إذ الحظوظ كانت متوفرة على أنّ الجهل بكل ألوانه (في التعليم وفي الصحة وفي كل الأوجه الديمقراطية) عاق دون استحصال أسرار تلك المكتشفات، وأصبحت معقولة في القرن 20 قرن الفيزياء على أنّ الوهن والحدث الاستعماري والفتن الداخلية أفقرت الحظ وزادت في الهوة وأضحت في القرن 21 قرن البيولوجيا والهندسة الوراثية مستبعدة نظرا إلى سطوة العولمة والنظام العالمي الجديد وفرض الهيمنة أحادية المصدر والاتجاه.
كل المكتشفات التي ذكرنا تنطق عن هوة جديدة بين ثقافة الحداثة في الغرب وثقافة التقليد أو الاقتباس في المشرق. فإذا كانت الهوة العلمية والهوة الصناعية والهوة التكنولوجية فضلا عن حقول السياسية والاجتماع والاقتصاد والفنون واضحة للعيان، فإنّ هوة أخرى بعيدة الغور والأثر تحتاج إلى النظر والتفكيك وهي الحاصلة في الخيال. ألم يبق الخيال الراجع إلى الثقافة العربية الإسلامية مشدودا إلى الواقع؟ ألم يسبق الخيال الواقع في الثقافة المنتجة للعلوم والتكنولوجيات المتطورة ؟ فجعل الهوة بينهما أضخم.
فماذا أنتج الخيال العربي ؟ وماذا أبدع؟
السؤال مطروح على تلك المكتشفات وما تناسل عنها بسرعة مذهلة فأي نصيب للثقافة العربية الإسلامية فيها؟
قد نحيل إلى الأدمغة المهاجرة ولها فعلا مساهمة ذات بال في تلك المكتشفات انطلاقا من النصف الثاني من القرن العشرين بشكل ملحوظ على أنّ الظروف والآليات والاستفادة ترجع إلى العدوة الأخرى إلى أوروبا والغرب. ولهذه الأدمغة فضل الإفصاح عن الطاقة الكامنة في العقل العربي على الإبداع وهي في الآن ذاته اتهام لواقع الثقافة العربية الإسلامية صريح.
والسؤال مطروح أيضا على قوانين الإبداع هل إنّ المرجعية فيها أصيلة أم مستوردة من ياكوبسون JAKOBSON وتودوروف TODOROV وبارت BARTHES وجينات GENETTE وبروب PROPP ...هل إنّ خيال الإبداع قاصر في الثقافة العربية الإسلامية عن أخصّ الخصائص المتعلقة بالشعر وقد رفع شعراء الحداثة شعار القناع الأسطوري بدل العمود والعيار وما إليهما من خواص الشعر العربي انتقالا من ميزة الشعر الموروث إلى خصائص الشعر الجديد..
قد نحيل إلى تشبت تيارات أدبية، شعرية ونثرية بالأصول، ولكن الأثر الذي تحدثه زهيد ومدى تفاعل المتلقين معها منوط بالشك والاستجابة لروح العصر،فيها محل امتناع.
والسؤال مطروح أيضا على أقانيم المجتمع من اقتصاد وسياسية على وجه الخصوص هل تستمد مادتها من الموروث وتفلح في تطويره أم هي راجعة إلى المحورية الغربية وأثرها في إضفاء الطابع الكوني على آلياتها ومادتها ومرجعيتها من ميل MILL إلى ماكس فيبار MAX WEBER ودوركايم DURKEIM إلى ماركس MARX وانجلز ENGELS إلى البنك العالمي والمنظمات الدولية الفاعلة.
قد نحيل إلى تجارب حصلت في الوطن العربي كالتجربة القومية إلاّ أنّ مسار الأحداث بيّن أنّها مقصورة على الغاية عن أن تحمل مشروعا متكاملا مبشرا بالفوز المبين.
الخلاصة تؤكد أنّ الخيال في الثقافة العربية مصطدم بعراقيل من داخل هذه الثقافة ومن خارجها وهي تنبئ بأنّ العقل المنتج المستنبط الفعال قد استبدل في النسق الغالب الملازم لهذه الثقافة بالعقل المستعار فهي تثبت أنّ الخيال بقي عاجزا عن أن يسبق الواقع وأنّ الواقع احتاج إلى تدبير يورّد توريدا فما القول في علاقة هذه الثقافة بالافتراضي؟
العنصر الثاني مقترن بالافتراضي ونحن نجوس خلاله باعتبارين. الأول غيابه بصفة فاعلة في الثقافة العربية رغم أنّه طموح، مشروع سياسيا في بعض الأحيان واجتماعيا بالقياس إلى النشء الجديد من الأطفال. والثاني هو حضوره في ثقافة أهل القوة والهيمنة بشكل طبيعي مستجيب لتقاليد مكتسبة. وإذا كان لكلامنا منطلقات من الفرع الثاني فإنّ ما نسكت عنه وثيق الاتصال بالفرع الأوّل.
يرتبط الافتراضي بالتسارع التكنولوجي المتطوّر وبالحاسوب. ويحق أن نلفت إلى مكونات له جوهرية أولها عملية الاختراع والخلق والتجسيم وهي كلها تآزرت لتغيّر العلاقة بين الخيال والواقع لتفضي إلى فضاء زمني جديد قلب موازين العالم. وهو لم يكتف بالبعد التكنولوجي بل مسّ البعد الثقافي أيضا. وأبرز ما طرأ في البعد الثقافي التوازي بين القوانين التي تؤسس له والقوانين المستجدة في البعد البيولوجي عامة وعلم الوراثة الهندسية على وجه الخصوص. ويمكن أن نضرب مثلا على هذه العلاقة المشبكة التوازي بين المعرفة الكامنة في جهاز الحاسوب وخصائص الهندسة الوراثية. ومعلوم أنّ حركة الحاسوب تستمدّ نسقها من مراحل ثلاث موازية لعلم الجينات على النحو الذي نلخصه في الجدول التالي :
علم الأجنة (البيولوجيا) الحاسوب (التكنولوجيا)
1- التناسل Reproduction نقل البرمجات ومنها على وجه الخصوص net scope وهي عملية نسخ
2- الانتقاءSelection اختيار لحسن التوظيف يؤدي إلى الرمي في سلة المهملات(poubelle) لكل فضلة.
3- التضخيمAmplification النظر في السوق لحسن التصرف والكسب فيستعمل ما هو ملائم ويترك ما هو غير ملائم.
والمكون الثاني الانتقال من تكنولوجيات الاتصال إلى نظم اتصالية تكنولوجية أي المرور من العقلية والمعرفة إلى التحكم والتمكن وذلك بفضل ما قدمه الإنترنت من مزايا على عالم الاتصال فحق الكلام على فضاء زماني مكاني سيبرناتي (Cyber espace temps). والسيبار هو المحيط الناجم عن استعمال النظم ذات الصلة بالواقع الافتراضي أو الناجم عن الإبحار في شبكات الأنترنات.
وجدير أن نعرّج على المتغيرات الناتجة عن هذه الظاهرة فقد كانت الرؤية عند الإنسان قبلها قائمة على العيار الجغرافي وهو لا يمتلك إلا الاستراتيجية ذات الحدود في الجهات الست (الشمال والجنوب، المشرق والمغرب، الفوق والتحت). وهي متصلة بمفهوم المجتمع الصناعي. وأصبحت الرؤية الجديدة في أنماط التفكير والبنى الذهنية داخل مجتمع المعلومات القائم على التسارع وقد ولد هوة من نوع جديد لا يمكن الإغضاء عنها عند التعرض للثقافة العربية الإسلامية وعند النظر في العلاقة بين الثقافة المبنية على الخيالي والثقافة المبنية على الافتراضي.
الهوة قائمة الذات بين الثقافات الراغبة أو العاجزة أو الممنوعة عن الافتراضي وهي تزداد تضخما واتساعا بفاعل الزمن المتسارع.
وهي هوة ممكنة في المجال الثقافي (الصراع بين الثقافات) والمجال الاجتماعي والسياسي.
وهي هوة ممكنة داخل المجتمعات بيــن الأجيــال وبيــن مرجعيــات الثقافـــة عندها. فما هي على سبيل المثال العلاقة بين جيل ثقافته أدبية وآخر الكترونيــــــــة (Vidéo, télécommande).
ونشأ عن ملامح للهوة ذات الأوجه المتعددة وعي جديد لم يصل مداه إلى المجتمعات بالدرجة نفسها من إمكان التوظيف أو من الاكتفاء بالفهم دون الفعل الحقيقي. هو الوعي الراجع إلى التربية وبالأحرى إلى التنشئة على أن الوسائل قد تغيّرت.
فلم يعد الإصلاح عبر نظام الحكم والسياسة كافيا أو مجديا كما انعكس عند المصلحين العرب في النصف الثاني من القرن 19 م على وجه التأكيد.
ولم يعد الإصلاح عبر نظام التعليم كافيا أو مجديا كما كان الأمر عند مفكري النهضة في نهاية القرن 19م وبداية القرن العشرين. ولم يعد الإصلاح عبر نظام الاقتصاد كافيا أو مجديا وهو المنهج الذي سلكه السياسيون والمثقفون العرب انطلاقا من السنوات الخمسين من القرن الماضي.
المجال متوفر لوسائل جديدة لا تلغي السياسة والتعليم والاقتصاد بقدر ما تصهرها في آليات جديدة، إنها وسائل الاتصال والمعلومات الساعية إلى مجتمع المعرفة القائم على الأسس العلمية وهو يبنى على القدرة على الخلق وعلى تبادل المعلومات مما أفصح عن دور استراتيجي للتربية أو للتنشئة.
فلا إمكان للإبقاء على الهوة إذا رمنا الكلام على استشراف يرصد سبيل السلام في العالم.
ولا إمكان للإبقاء على الهوة بين الثقافة القائمة على الخيالي والثقافة القائمة على الافتراضي. أي لا يتسنى للثقافة بالخيال أن تنغلق وإلا سارعت إلى الفساد. ولا يمكن للثقافة بالافتراضي أن تهمل الخيال وإلا جرت على الإقصاء المعلن بالصراع.
وهذا يعني أن النقد الذاتي للثقافة العربية الإسلامية مهم عاجل قبل أن يفرض عليها الإصلاح فرضا لا نقدر مداه ولا مآله والكلام عندنا مقصور على الثقافة دون غيرها من الأقانيم. وقد انتشرت قيم جديدة لازمت التنشئة المنشودة عن مجتمع المعرفة والمعلومات.
فقد كانت القيم طابقية فيها الهيمنة والمنافسة والتسابق وقد غذّت معاني الصراع. وأصبحت القيم المنشودة مع مجتمع المعرفة قائمة على التضامن والسخاء وتبادل المعلومات إحالة إلى ولادة كون جديد معطاء مازال في كثير من وجوهه رجاء منتظرا. 

الخاتمـــــــة :
اخترنا جملة من العناصر أردنا بها أن نحيل إلى إشكالية حادة لا يمكن إهمال ما لها من أثر في حياة المجتمعات. وإن عصر العولمة لهو عصر غريب الأطوار، سريع التقلبات والتحولات. وإذا كانت الدراسات اليوم تتعاظم وتتراكم منادية بالتصدي للعولمة فهل يجوز مع الوعي الشديد أنّ لها فعلا معايب ومخاطر، أن نرى فيها فرصة لليقظة والارتقاء.
السبيل إلى ذلك الإسراع نحو الافتراضي( إلى جانب الخيالي) أي نحو ثقافة جديدة ضرورية تمتلك ناصية المعرفة وتدرك أن سرّ المثاقفة وضع الخنصر على الخصوصية الثقافية وكأنه لا معراج إلى روح العصر إلا بالهوية المنفتحة. ولا هوية منفتحة دون الاستعداد الموضوعي للارتقاء.