التنشئة السياسية: المفهوم والأهمية والنمط السائد في الجمهورية اليمنية
الأربعاء, 26-مارس-2008
التنشئة السياسية
د. قائد محمد عقلان - مقدمــة:
لا مراء في القول بأن العنصر البشري يعد هو الوسيلة والغاية معاً لبلوغ مختلف ضروب التنمية وأنواعها، بما في ذلك التنمية السياسية بمفهومها الشامل الذي يتسع ليشمل "التنشئة السياسية" التي تعد أساس عملية التنمية السياسية وصلبها.
بيد أن مثل هذا الرهان على العنصر البشري في انجاح عملية التنمية لا يتأتي تلقائياً، أو عبر الصدفة، وإنما يعتمد على نمط البيئة الثقافية وطرق الإعداد والتوجيه التي ينشأ في ظلها الشباب ويتطبع بطابعها سلباً أو ايجاباً، بالضبط مثلهم مثل أي منتج تتحدد جودته أو رداءته وفقاً لنوع المدخلات وكيفيتها، فإن حَسُنت المدخلات حَسُنت المخرجات والعكس صحيح.
والتنشئة السياسية تشير إلى جزء من مصطلحات المعجم السياسي التي تُعنى بظاهره السلطة السياسية في حياة المجتمعات البشرية، والذي يعد مدخلاً في غاية الأهمية في التحصين والبناء الفكري السليم للشباب، الذي يجب ان يستهدف فيهم تنمية الوعي بأهمية الولاء الوطني والوعي الجمعي بأهمية قوة وسلامة الجسم السياسي والمصير المشترك، بعيداً عن الولاءات والأطر الضيقة والأفكار والايديولوجيات البالية، فقوة الدولة تعتمد على سلامة الجسد السياسي، ومدى تماسكه، بالضبط مثلها مثل قوة قبضة اليد تعتمد على سلامة الجسم وصحته.
وفي هذا السياق فإن التساؤلات التي يجب أن تثار في هذه الورقة هي ما هو مفهوم التنشئه السياسية؟ وما هو نمط أو أنماط الثقافة السياسية القائمة في الجمهورية اليمنية وأسبابها؟ وما هي أدوات التنشئة السياسية التي تنتقل عبرها مثل هذه الثقافة وأساليبها؟
ومن أجل الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها فإننا سنقسم هذه الورقة إلى ثلاثة محاور أساسية: الأول يعُنى بالتأصيل المفاهيمي للتنشئة السياسية، والثاني يستعرض نمط الثقافة السياسية القائم في الجمهورية اليمنية وأبعاده، أما الثالث فيتناول أدوات أو دوائر التنشئة السياسية وأساليبها، وذلك كما يلي:
أولاً: مفهوم التنشئة السياسية والمفاهيم المقاربة
لا شك بأن تحديد المصطلحات والمفاهيم والتعريف بها يعد مدخلاً منطقياً ولازماً لفهم الظاهرة موضوع الدراسة والاحاطه بها، بما من شأنه تجنيب المصطلح مغبة الاختلاط بغيره من المفاهيم والمصطلحات المقاربة والتي قد تبدو لأول وهلة مرادفه له.
وبهذا الصدد نجد أن كل من "التنشئة السياسية"، و"الثقافة السياسية"، و"الثقافة العامة" تعد من المصطلحات المترابطة بقوة، إلا انه على الرغم من ذلك الترابط فإن لكل مصطلح خصيصة أو خصائص تميزه عن غيره سواء من حيث المفهوم أو من حيث الطبيعة أو النطاق. فبينما ينصرف مصطلح "الثقافة" بمفهومها العام والمجرد والمطلق إلى منظومة القيم والأعراف والتقاليد والعادات والمؤسسات التي تسود مجتمعاً ما من المجتمعات، وتعمل على توجيه وضبط مسار تفاعلاته المختلفة.
نجد أن "الثقافة السياسية" تشير إلى منظومة القيم والأفكار والمعتقدات المرتبطة بظاهرة السلطة السياسية في المجتمع، والثقافة السياسية على هذا النحو من المفهوم في الواقع تعد جزءً من الثقافة العامة، يمكن وصفه بأنه ذلك الجزء الذي يعُنى بظاهرة السلطة السياسية.
أما "التنشئة السياسية" موضوع هذه الورقة الأساسي، فيقصد بها تلك العملية التي تنتقل عبرها الثقافة السياسية وبها تستمر ومن خلالها تتغير، وما يرتبط بها من دوائر تربوية وتوعوية وتعليمية، بداءً بالأسرة ومروراً بالمدرسة والنادي والحزب..الخ وانتهاءً بالدولة.
وكلاً من الثقافة السياسية والتنشئة السياسية تعدان معاً من الموضوعات البالغة الأهمية في حياة المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، نظراً لما لهما من دور حيوي في تحديد مسار العملية الديمقراطية نجاحاً أو اخفاقاً، وبالتالي رسم معالم وآفاق الحياة الاجتماعية سعادةً أو بؤساً وشقاءً.
فإذا كانت الثقافة السياسية تعكس مدى نضوج وتمدن الأفراد بأهمية وضرورة الحياة الجماعية والمصير المشترك، والتي لا يمكن ان تؤسس وفقاً لأطر اجتماعية ضيقة، وأفكار ومعتقدات بالية وانتهازية، ورؤى وتصورات مصلحيه قصيرة النظر والأفق، وانما وفقاً لأسس ومتطلبات المجتمع المدني المتحضر بعلقه الجمعي القائم على التعدد والتسامح والقبول بالآخر واستيعابه لا استبعاده، إنطلاقاً من معيار المواطنة والكفاءة والنزاهة ومأسسة السلطة وتجردها لا شخصنتها، وبالتالي الولاء لها لا استعداها، فإن التنشئة السياسية تعد منبع الثقافة ومصنعها بما تنطوي عليه من دوائر تنشئه وتوجيه، وهو حديث ينصب عن دور الأسرة والمدرسة والحزب.. وغير ذلك من الدوائر الاجتماعية.
ونظراً للترابط الوثيق بين كلاً من الثقافة السياسية والتنشئة السياسية فإننا سنسلط الضوء عليها معاً هنا بالنسبة للجمهورية اليمنية.
ثانياً: نمط الثقافة السياسية اليمنية وأسبابها
يعد مفهوم الثقافة السياسية من المفاهيم الحديثة نسبياً في علم السياسة، اذ يرجع ظهوره إلى عام 1956م عندما استخدمه الأستاذ الأمريكي جابرييل الموند كبعد من أبعاد تحليل النظام السياسي، فكل نظام سياسي عند الموند، يترسخ حول انماط محددة من التوجهات التي تضبط التفاعلات التي يتضمنها النظام الاجتماعي، وبالمثل تكون الثقافة السياسية بمثابة التنظيم غير المقنن للتفاعلات السياسية، أي انها- كما سبق الايضاح "مجموعة القيم والأفكار والمعتقدات المرتبطة بظاهرة السلطة في المجتمع".
والثقافة السياسية على هذا النحو من المفهوم تنطوي على العديد من الملاحظات الهامة، لعل من أبرزها ما يلي:
‌أ. تعد الثقافة السياسية محصلة تفاعل التجارب والخبرة التاريخية، والمحددات الجغرافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، وهي أيضاً تتأثر بالرأي العام، بمعنى أنه اذا اتسم هذا الأخير تجاه قضية محددة بالثبات النسبي يمكَّن لقيمة وآرائه ان تتحول إلى جزء من نسق القيم التي تتكون منها الثقافة السياسية.
‌ب. ويعد التنوع السابق في روافد الثقافة السياسية أهم ما يميزها عن الايديولوجيا، فالثقافة السياسية غير ممنهجه، وتتضمن الغث والسمين، كونها تشتمل على مجموعة من القيم يتكامل بعضها ويتناقض بعضها الآخر، في حين ان الايديولوجيا ممنهجة وتتميز بدرجة كبيرة من الانتقائية، ومن ثم تتمتع بقدر كبير من التجانس القيمي بمعنى آخر، الثقافة السياسية هي محصلة تطور تاريخي نتيجة تفاعل عدد من العوامل، أما الايدولوجيا فهي تركيب فكري وعقلي يحرص أصحابة على ان يتسم بالتجانس والاتساق.
‌ج. على الرغم من أن الثقافة السياسية تعد فرعاً من الثقافة العامة- كما سبق القول- إلا أنها بدورها تتضمن العديد من الثقافات السياسية الفرعية التي تختلف باختلاف الاجيال والبيئات والمهن.
فالثقافة السياسية للشباب تختلف عن نظيرتها لدى الشيوخ، والثقافة السياسية للصفوة تختلف عن مثيلتها للجماهير، والثقافة السياسية للحضر تختلف عن تلك لسكان القرى والبدو.. وهكذا.
وإجمالاً يمكن القول بأن الثقافة السياسية اليمنية تندرج ضمن الثقافة السياسية العربية في مجراها العام، وهي ثقافة سياسية ضيقة وتابعة في معظمها وليست مشاركة، بمعنى تدني درجة الوعي السياسي والمشاركة السياسية والقبول بفكرة المجتمع المدني والتعايش معها بوعي ناضج ومدرك لمؤسساتها وأهميتها، ويمكن قياس ذلك من خلال موقف هذه الثقافة وإدراكها إزاء قضيتين رئيسيتين هما: قضية الانتماء والهوية، والمشاركة السياسية.
1. بالنسبة لقضية الانتماء والهوية (مفهوم المجتمع المدني) في الثقافة السياسية لأي مجتمع في واقع الأمر هي شعور الفرد بالانتماء إلى جماعة إلا أن هذا الشعور بحد ذاته لا يعد كافياً لتحقيق وحدة هذه الجماعة وتكاملها، وإنما يعتمد ذلك على الاجابة على أسئلة مثل ما هو تصورهم للهدف من وجودهم؟ والأهم من ذلك هو كيف يتصورون تحقيق هذا الهدف؟ وعدم الإجابة الموضوعية على هذه الأسئلة من خلال عملية التنشئة السياسية يؤدي إلى ما يعرف باسم "أزمة الهوية".
وفي هذا السياق نجد أن لمسألة الانتماء في الثقافة العربية ومنها اليمنية مستويات عدة منها مستوى الأسرة الممتدة، ومستوى العشيرة والقبيلة، ومستوى الجماعة الدينية أو الطائفية، ومستوى الأمة والوطن، وهي مسألة طبيعية في كل المجتمعات، إلا أنه عدم التناسق بين تلك الأطر والدوائر الاجتماعية أو الانتماءات دون الدولة مع الولاء للدولة ذاتها، وغياب الرؤية لترتيبها قد يؤدي إلى إثارة القلاقل وعدم الاستقرار، بل ورفع السلاح في وجه الدولة، الأمر الذي يشكل ضربه موجعه لمفهوم وفلسفة "المجتمع المدني" وأهدافه، وبالتالي العودة إلى حياة الغاب أو حالة الفطرة الأولى التي يكون فيها البقاء للأقوى كما طرح المفكر الانجليزي توماس هوبز.
فمفهوم المجتمع المدني لا يمنع أن يعزز المواطن انتماءه إلى جماعته القبلية أو المذهبية بشرط ألا يكون انتماؤه للدولة محل خيار أو مفاضلة مطلقاً، فالمجتمع الأمريكي مثلاً مجتمع شديد التنوع الثقافي، لكنه في الوقت نفسه يمثل إطاراً تتكامل فيه مختلف الثقافات وتلتقي على حد أدنى من القيم السياسية والاجتماعية، بينما نجد أن نمط الثقافة السياسية اليمنية في معظمها يتقاطع مع فكرة الدولة ومؤسسة السلطة وتجردها، إذ أنه ما يزال هناك قطاع واسع من الجماهير وبعض القوى السياسية والاجتماعية تجند نفسها للاصطفاف وراء أطر اجتماعية وايديولوجية ضيقة، انطلاقاً من تحسبات مصلحيه أنانية وقصيرة النظر لم تتحرر بعد من دائرة الأسر الانعزالي المفعم بالتسلط والاستبداد.
هذا ما يمكن أن نلمسه بوضوح في حركة التمرد المتكررة في محافظة صعدة الدائرة منذ منتصف التسعينات من القرن المنصرم، سواء من حيث التبريرات التي يسوقها أطراف حركة التمرد أو من حيث موقف المعارضة وتحديداً أحزاب ما بات يعرف بـ"اللقاء المشترك".
فعلى مستوى أطراف أو قادة حركة التمرد نجد ان لغتهم السياسية ومبرراتهم التي يسوقونها لتسويق أعمالهم الارهابية، لا تستند إلى أي منطق قانوني أو دستوري أو منطقي، وانما تعكس نزعة تسلطية مفعمة بالحنين إلى العودة إلى ماضي التسلط والهيمنة والتفرد بالسلطة وهي محاولة تعكس موقف قوى انهزامية قد لفظها التاريخ، وتحاول عبثاً النفخ في رماده، بعدما تقطعت بها السبل في التواصل مع العصر ومعطياته الذي في مقدمتها الحرية والديمقراطية والتسامح وحق المواطنة المتساوية.
أما على مستوى موقف قوى المعارضة وتحديداً أطراف اللقاء المشترك، فنجد أنه على الرغم أن تلك الاحداث تشكل تهديد للوطن برمته، إلا أن موقف تلك الأحزاب اتسم في معظمة في المحاولة لتسويق شرعنتها، إنطلاقاً من رؤى وتحسبات ضيقة وأنانية وقصيرة النظر، لا ترتقي والمصلحة الوطنية العليا وانما تندرج ضمن المكايدات السياسية مع حزب المؤتمر الشعبي العام بوصفه الحزب الحاكم، وذلك اتساقاً مع القاعدة السياسية القائله بـ(عدو عدوي صديقي) مع أن ما كان يجري في صعدة حتى الأمس القريب يستهدف الوطن برمته.
هذه المواقف المتمحوره حول الذات في الثقافة السياسية اليمنية تستقي أسبابها من عوامل عدة، لعل من أبرزها الأمية والجهل المتفشي لدى قطاعات واسعة من الجماهير، والنزعة التسلطية لدى قادات ونخب أحزاب المعارضة المتمترسين وراء ايديولوجيات متزمتة ومتعصبه لم تعد في معظمها تمت بصلة إلى روح العصر ومعطياته.
2. أما بالنسبة لقضية المشاركة السياسية:
والتي نقصد بها الأنشطة السياسية التي يقوم بها الأفراد بهدف التأثير في العملية السياسية ومنها: التصويت في الانتخابات وحضور المؤتمرات والندوات، ومطالعة الصحف، والانخراط في الاحزاب السياسية والاتصال بالجهات الرسمية..الخ فنجد أنها تتصف بالموسمية والشكلية، ولا تعكس في معظم الحالات وعي سياسي محدد، بقدر ما تعكس السعي إلى الحصول على خدمات أو منافع مادية آنية من المرشحين.
وهذا الموقف ينسحب حتى على مستوى تواجهات الاحزاب السياسية، التي لاتنظر للعملية الديمقراطية سوى كونها وسيلة مناسبة للانقضاض على السلطة لا بوصفها فلسفة شاملة لمختلف جوانب الحياة وانما تعكس عقلية انقلابية تعسكر نفسها في موسم الانتخابات لامتداح الديمقراطية واستقطاب الجماهير حتى مرحلة الفرز، ومن ثم يتم العودة إلى حياة السكون والسبات، وهذا المشهد يعد في واقع الأمر جزءً من نادي الديمقراطية العربية وهي نادي (الديمقراطية بلاد ديمقراطيين).
3. أدوات التنشئة السياسية وأساليبها:
وبالتحول من مضمون الثقافة السياسية إلى أدوات انتقالها عبر التنشئة السياسية، يمكن القول بأن الفرد اليمني ينشط في وسط بيئة ثقافية استبدادية في معظمها ويغلب عليها الجهل والأمية، وليس هناك دور ملموس للمدرسة أو وسائل الاتصال الجماهيرية المكتوبة والمسموعة في عملية التثقيف السياسي، كما لا تمارس الأحزاب السياسية في معظمها دوراً ملموساً في هذا المجال، بالنظر إلى ضعف تغلغلها بين الجماهير، واذا كان لها من دور فهو يعكس منظورات ايديولوجية متزمته وغير متسامحة بطبعها.
كما أن دور الأسرة باعتبارها الخلية أو النواة الأساسية لتشكيل قيم الفرد ومعتقداته تجاه السلطة، يمكن وصفه بالدور السلبي أو المعيق، نظراً للأسلوب الديكتاتوري والأمر المتبع في تربية الأبناء وإدارة شئون الأسرة.
ومن هنا نجد أن الأسرة التي تنشئ ابناءها على احترام آداب الحوار والتسامح مع الآخر، وتشجعهم على إبداء آرائهم ولا تميز بينهم في المعاملة لداعي السن أو الجنس، تخرج عادة للمجتمع مواطنين اسوياء تشبعوا بروح الممارسة الديمقراطية واقتنعوا بأهميتها.
أما الأسرة التي يستبد ربها برأية دون مشاركة الزوجة والأبناء أو التي تميز في المعاملة بين الأبناء، فإنها تلفظ إلى المجتمع مواطنين سلبيين أو غير ديمقراطيين.
وهكذا نجد أن كل هذه الدوائر تتضافر معاً في تغذية الثقافة السياسية الضيقة التي تنعكس سلباً في الوعي المجتمعي بأهمية المجتمع المدني ومؤسسة السلطة والولاء الوطني.

الخاتمة:
مما سبق نستنتج التأكيد على أهمية التنشئة السياسية، وذلك من خلال حملات التوعية السياسية وإعادة الاعتبار لدور المدرسة والحزب والنهوض بدوره الايجابي، وكذلك تفعيل دور وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري بما من شأنه الإسهام في خلق جيل واعي بمفردات القاموس السياسي ذات الصلة بظاهرة السلطة السياسية وأهمية تعزيز دورها الفاعل في النهوض بالوطن بعيداً عن التعصبات الضيقة.
ولعل التوجهات الحالية لمعهد الميثاق بقيادته الجديدة تعد خطوة تحسب للمؤتمر الشعبي العام على الطريق الصحيح.