السياسة الأميركية وتحالفات الشرق الأوسط
الثلاثاء, 06-يناير-2009
حسين عبد الحسين - تنقسم السياسة الاميركية حيال الشرق الاوسط، في العقود القليلة الماضية، الى ثلاثة مراحل. امتدت المرحلة الاولى من العام 1979 وحتى انهيار جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة في العام 1989 وتخللها حرب الخليج الاولى بين العراق وايران. اما المرحلة الثانية، فتمثلت بالاجتياح العراقي للكويت في العام 1990 وحرب الخليج الثانية وبدأ مفاوضات السلام العربية - الاسرائيلية، التي انتهت مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000. بدورها بدأت المرحلة الثالثة مع هجمات 11 سبتمبر 2001 وما تلاها في حرب الخليج الثالثة، وسنعتبر في هذه الدراسة ان هذه المرحلة الثالثة والاخيرة انتهت مع خطة ''زيادة القوات'' الاميركية في العراق، التي وصلت مداها هذا الصيف.

وبالنظر الى هذه المراحل الثلاث، نرى ان سياسات الولايات المتحدة في الشرق الاوسط تبدلت فتبدلت معها صداقات واشنطن وتحالفاتها ، مما انعكس على شكل التحالفات في المنطقة بشكل عام وعلى السياسات الداخلية في كثير من الدول العربية. الثابت الوحيد في الشرق الاوسط هو الرؤية العربية المسطحة للسياسة الاميركية، واعتبارها سياسة تآمرية مستمرة منذ اليوم الاول.

المرحلة الاولى (1979-1989): نهاية حروب التحرر
مع حلول العام 1979، كانت مصر قد خرجت من الصراع مع اسرائيل بتوقيعها معاهدة سلام. لم تنه تلك المعاهدة الحرب مع اسرائيل فحسب، بل مثلت نهاية ''حروب التحرر'' العربية ضد الاستعمار، وانتهاء مرحلة الناصرية العلمانية التي تصدت لها الولايات المتحدة بدعم القوى الاسلامية المتطرفة، وتشجيع حلفاءها في المنطقة على تمويل تلك المجموعات.

مع حلول العام 1979 ايضا، وفي الوقت اذي انتقل فيه الثقل العربي المصري من معاداة الولايات المتحدة الى مصادقتها وادى تاليا الى نشوء محور عربي يتفادى الحروب بقيادة مصر والسعودية، انزلقت كبرى حلفاء اميركا في المنطقة، اي ايران الشاه، الى موقع معاد تماما لواشنطن والغرب ولحلفائهما من العرب يوم قامت ثورة روح الله الخميني.

ومارست ايران خطرا غير مسبوق تجاه الولايات المتحدة ومصالحها. فايران هي من بدأت العداء تجاه اميركا ووعدت بتصدير ثورتها، المسماة اسلامية، الى دول المنطقة كافة والعالم.
هذا الخطر الايراني دفع الاميركيين الى استخدام منظومتين لمواجهة النظام الايراني المتطرف. من جهة، استمرت دول الخليج العربي، صاحبة المداخيل النفطية الكبيرة، في تمويل الاسلام السياسي المتطرف لمواجهة المد الايراني، الذي ابتكر شكلا جديدا من المذهب الشيعي اطلق الايرانيون عليه تسمية ''ولاية الفقيه''، حول بموجبه اتباعه الى عبيد في السياسة على عكس المذهب الشيعي الاصلي القائل بتعدد الاراء من خلال الاجتهاد وبالابتعاد عن السياسة حتى ظهور الامام الثاني عشر المهدي.

كذلك دفعت اميركا وحلفاؤها الاسلام السني المتطرف نحو المزيد من العسكرة اذ زجت به في مقاومة احتلال الاتحاد السوفياتي لافغانستان، والذي بدأ في العام 1979، واشر الى افول الدور الروسي المعارض للسياسات الاميركية في المنطقة، اذ انشغلت موسكو بحربها الاستنزافية هناك قبل ان تنهار الامبراطورية السوفياتية تماما بعد حوالي العقد من بدء حرب افغانستان. ومن نافل القول ان الحرب الافغانية، وعلى عكس اعتقاد التيارات الاسلامية المتطرفة، لم تسقط وحدها الاتحاد السوفياتي بل اظهرت ضعفه الذي تجلى في انهياره.

المنظومة الاميركية الثانية التي لجأ اليها الاميركيون قضت بتشجيع حلفاءها في المنطقة على حث حاكم العراق المغامر صدام حسين على اجتياح ايران وربما انهاء النظام الايراني اليافع. وكان صدام يخشى من توسع الفورة الشيعية الايرانية لتشمل بلاده، حيث الاكثرية السكانية تميل لصالح الشيعة العراقيين، فاندفع نحو ايران في حرب مميتة، في العام 1980، استمرت ثماني سنوات وكلفت البلدان الكثير من الارواح والمال.

لكن على الرغم من حربه مع ايران، لم يصبح صدام يوما حليفا للولايات المتحدة، على الرغم من التنسيق بين بغداد وواشنطن اثناء الحرب، والذي دفع كثيرين الى الاعتقاد بانه ونظامه صنيعة واشنطن. صدام كان قد ارتمى في احضان الاتحاد السوفياتي منذ مطلع السبعينات وكان جيشه مسلحا معظمه باسلحة روسية متطورة، وهو ما قيد الانفتاح الميداني الممكن على الاميركيين. ولكن الحرب مع ايران فتحت لصدام ابواب الدعم الاميركي المحدود الذي وصل اوجه مع تبادل البعثات الديبلوماسية بين البلدين في العام 1984.

صدام، و على عكس مصر وسورية والاردن والسعودية وسائر دول الخليج، كان صاحب النظام الوحيد في المشرق العربي الذي لم يسعى الى صداقة الولايات المتحدة بل اصر على المعاملة الندية معها، ولكن في الوقت نفسه، حافظ على نزعته التسلطية والعدوانية تجاه دول المنطقة، مما وضعه في مواجهة الاميركيين غالبا.

في ثمانينات القرن الماضي، استمرت الحرب الباردة في تحديد حلفاء واعداء اميركا في المنطقة باستثناء العراق، الذي عاش فترات ود مع واشنطن على الرغم من قربه من موسكو، وسورية، المعروف نظامها بالبراغماتية المطلقة التي تقوده الى اللعب في تحالفاته الاقليمية والعالمية دوما لتحقيق المزيد من المكاسب. هكذا، كان للولايات المتحدة تحالفات وطيدة مع كل من انظمة مصر والسعودية والمغرب والاردن وتونس والامارات وقطر والبحرين والكويت بالاضافة الى حليف اميركا المطلق، اسرائيل، فيما اعتبرت واشنطن الانظمة العربية حليفة موسكو في مصاف الدول شبه العدوة. وتصدر اعداء اميركا في العالم العربي ليبيا والجزائر والسودان. في اليمن ولبنان، فاختارت واشنطن حلفاءها من بين الفصائل المتناحرة فيما بينها. اما ايران الخميني، فانقلبت الى عدوة لواشنطن من خارج تحالفات الحرب الباردة.

سادت تلك المرحلة الشروط التي وضعتها واشنطن للتمييز بين الصديق والعدو، اذ قلما تمحصت في العقائد التي قامت عليها انظمة الدول الصديقة. ولم تكترث واشنطن لاداء هذه الانظمة من حيث حقوق الانسان او احترام الديموقراطية وتداول السلطة وكان يكفي لاي نظام، في العالم العربي او حول العالم، اعلان ادانته للشيوعية وتأييده لاميركا كي تتخذ منه واشنطن حليفا وصديقا.

يكفي النظر الى خطاب الفصائل المتناحرة دوما في لبنان للتدليل على كيفية اتخاذ اميركا لحلفائها في المنطقة في ذلك الحين. كان يكفي الاحزاب المسيحية في لبنان، مثل ''الكتائب اللبنانية''، اعلان تمسكها بمبادىء اقتصاد السوق والليبرالية وعدائها للاقتصاد الموجه والشيوعية لتحوز على ثقة واشنطن. لكن ''حزب الكتائب اللبنانية'' مبني اصلا على عقيدة مستوحاة من العقائد الفاشية الاوروبية التي سادت في الثلث الثاني من القرن الماضي عندما استوحى مؤسس الحزب بيار الجميل اسم حزبه من كتائب فرانكو، ديكتاتور اسبانيا. لكن مع حلول الثمانينات، كان يكفي ان يشهر مسؤولو الكتائب عدائهم للشيوعية وتأييدهم لاقتصاد السوق حتى توافق اميركا على انتخاب بشير بيار الجميل رئيسا للبنان.

المرحلة الثانية (1990-2000): نهاية الحرب الباردة وبداية الشرق الاوسط الجديد
مع انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، تلاشت الخطوط التي ميزت اصدقاء الولايات المتحدة من اعدائها في منطقة الشرق الاوسط. وكان لابد لواشنطن من ابتكار الية جديدة ترسم بموجبها خريطة تلك التحالفات. صدف ذلك مع خروج صدام حسين شبه منتصر في حربه مع ايران على رأس جيش كبير واقتصاد متهاو، ولكن مع ثقة زائدة بالنفس. ولان الرئيس العراقي الراحل لم يعرف عنه قراءة الظروف الدولية جيدا، تورط في اجتياح جارته الكويت، احدى حلفاء الغرب الاساسيين في المنطقة.

ولد اجتياح العراق للكويت فرصة اميركية لرسم تحالفات لم تدم طويلا اذ لم ينحاز الى جانب النظام العراقي غير منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات والاردن وعاهله الحسين، ولاثنان عادوا الى منطقة الرضى الاميركية مع بدء عملية السلام الاسرائيلية - العربية بعد اقل من سنة على الحرب. كذلك لم توفر حرب الخليج الثانية، التي وقفت فيها طهران في وجه عدوها اللدود العراق، فرصة لايران للتقارب مع الولايات المتحدة.

بيد ان التأثير الاكبر الذي انتجته حرب الخليج الثانية، والتي ادت الى طرد قوات صدام حسين من الكويت، كان تأكيد اميركا على انفرادها بقيادة العالم بشكل عام ومنطقة الشرق الاوسط بشكل خاص، اذ ذاك شعرت الادارة الاميركية برئاسة جورج بوش الاب بالحاجة الى ارساء ما اسمته شرقا اوسطا جديدا يعمه الاستقرار الامني والاقتصادي، لم فيه من مكاسب لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

تصدر اولويات الادارة الاميركية اثناء عملية بناء الشرق الاوسط الجديد ضرورة انهاء الصراع العربي - الاسرائيلي، وادخال اسرائيل في الشرق الجديد والمستقر، فكان مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991 واتفاقيات من بعده ادت الى اعتراف اسرائيلي تاريخي بوجود الشعب الفلسطيني، وبعض من حقوقه، في مقابل شطب منظمة التحرير الفلسطينية من ميثاقها بند عدم الاعتراف بالدولة العبرية. واستمرت بعد ذلك المفاوضات باتجاه ما يعرف بالحل النهائي للصراع الاسرائيلي - الفلسطيني والذي من المفروض، في حال التوصل اليه، انجاز سلاما شاملا بين اسرائيل والدول العربية كافة بموجب عدد من اتفاقيات السلام الثنائية.

جاء بعد عملية السلام على سلم الاولويات الاميركية انهاء الحرب الاهلية اللبنانية المستمرة منذ العام 1975، فقامت واشنطن برعاية اتفاق بغطاء سعودي وتسوية مع سورية، المتقاربة مع اميركا بفضل حرب الخليج الثانية، تم بموجبه انهاء التقاتل اللبناني ومنح دمشق وصاية ضمنية على الشؤون اللبنانية.

ومع حلول العام 1993 وتوقيع اتفاق اوسلو بين الفلسطينيين والاسرائيليين، والذي نتج عنه عودة عرفات الى الاراضي الفلسطينية، بدا وكأن المنطقة متجهة نحو انفراجات حتمية واستقرار امني وازدهار اقتصادي ما عدا كل من صدام حسين ومعمر القذافي المحاصرين والمعزولين دوليا. اما ايران، فبدا انها بعيدة عن الاضواء في الوقت الذي وصل الى سدة الحكم فيه معتدلون من امثال الرئيس السابق محمد خاتمي. اما التوتر الوحيد الذي خرق الهدوء الشرق الاوسطي لفترة التسعينات تمثل بحرب ''حزب الله'' اللبناني لتحرير الارض اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي، بالاضافة الى عدد من العمليات الانتحارية الفلسطينية التي قامت بها ''حركة حماس'' وادت غالبا الى تعقيد مفاوضات السلام الفلسطينية - الاسرائيلية، المعقدة بما فيه الكفاية اصلا.

وباستثناء العراق وليبيا وايران من بين الدول، و''حزب الله'' و''حماس'' من بين التنظيمات الحزبية، كان لواشنطن علاقة طيبة مع كل الاطراف الباقية في منطقة الشرق الاوسط. ولكن، كما في زمن الحرب الباردة، تغاضت واشنطن عن تجاوزات الانظمة حليفتها لحقوق الانسان وللديموقراطية بشكل عام، ما عدا بعض الاعتراضات الرسمية الشكلية على تضييق الوصاية السورية على حرية الرأي في لبنان، على سبيل المثال، او التصريحات الاميركية ضد ممارسات نظامي القذافي وصدام حسين القمعية في حق شعبيهما.

ووصلت فترة الهدوء، التي رافقت انشاء الشرق الاوسط الجديد، اوجها مع صيف العام 2000 والانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان بعد احتلال دام 22 عاما. لكن الهدوء الكلي في المنطقة لم يستمر طويلا اذ انهارت مفاوضات السلام الفلسطينية - الاسرائيلية وادت الى نشوب ما عرف بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي تلت باشهر قليلة الانسحاب الاسرائيلي من لبنان.

وانشغلت المنطقة والعالم باحداث الاراضي الفلسطينية، التي رافقتها عملية عسكرية اسرائيلية كاسحة وصلت الى داخل مقر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. ولم تكد المنطقة تخرج من المشكلة الفلسطينية حتى اجتاحت طائرات خطفها عناصر ''تنظيم القاعدة'' مبنيي التجارة العالمي، في نيويورك، ومبنى وزارة الدفاع في ضاحية واشنطن، بولاية فيرجينيا، في 11 سبتمبر 2001.

المرحلة الثالثة (2001-2008): سقوط الديموقراطية
ادت هجمات 11 سبتمبر الى مراجعة اميركية جذرية لسياسة واشنطن في الشرق الاوسط، اذ بعد عقود من اصرار اميركا على دعمها ما اسمته الديكتاتوريات الصديقة في المنطقة، تبنت النظرية القائلة بان غياب الديموقراطية في الدول العربية هو الذي يقف وراء عدم الاستقرار في المنطقة. وكان ابطال هذه النظرية مثقفين من امثال الصحافي في جريدة النيويورك تايمز توماس فريدمان، الذي كتب ان دولتين ديموقراطيتين لا يذهبان الى الحرب في ما بينهما.
وعززت نظرية فريدمان كتابات اجيال من المثقفين العرب لطالما اعتبروا فيها ان في الشعوب العربية طاقات يقمعها الاستعمار الاوروبي وسياسات الحرب الباردة من بعده. وبزوال التدخل الخارجي وادواته، التي غالبا ما صورها المثقفون العرب على انها الحاكم الظالم، لا بد من ان تنهض الشعوب العربية وتبني لانفسها بلدانا وامما تكون من خير الامم التي اخرجت للبشر.

هكذا اعتقدت مؤسسة القرار في الولايات المتحدة ان سياساتها البراغماتية الماضية، والتي تركزت على التعامل مع من يمكن ان يمسكوا بالامن في مناطق نفوذهم ودولهم على حساب الحريات وحقوق الانسان، هي التي ولدت القهر لدى من تحولوا الى انتحاريين في فلسطين وفي هجمات سبتمبر، فكان لا بد من اجراء تغيير جذري للاوضاع في الدول العربية والعمل على نشر الديموقراطية، من خلال قلب الحكام، والازدهار، من خلال اقتصاد السوق.

وتلقف ''المحافظون الجدد''، وهم في معظمهم من خلفية عقائدية يسارية تروتسكية، هذه النظرية التغييرية، واقنعوا دوائر القرار في واشنطن ان بامكان الامبراطورية الاميركية استخدام جيشها لاحداث التغيير. بدأ التغيير الاميركي من خلال شن الحرب على افغانستان، حيث سقط نظام الطالبان بسهولة كبيرة. وترافقت تلك الحرب مع تشديد اميركا الضغط على دول منطقة الشرق الاوسط من اجل نشر الديموقراطية فشن الكونغرس حملات لتغيير مناهج التعليم، التي اعتبرها الاميركيون اسلامية متطرفة، في دولة حليفة مثل السعودية.

ولسهولة حرب افغانستان، سار الاميركيون قدما في المزيد من الحروب، وذهبوا لتغيير نظام عدوهم في العراق صدام حسين، على اعتبار ان خلعه يسهل تسويقه لدى الاميركيين وان انهيار نظامه، سيقنع ايران، العدو المتبقي في المنطقة، بتبني الديموقراطية.

وتلطى خلف النظرية التغييرية للعراق مصالح قطاعات النفط الاميركيين، نظرا لغزارة هذه المادة فيه، ولوبيات صناعة السلاح، المتعطشون للحروب دوما، وامراء حروب ومنتفعون وتجار السياسة من الاميركيين وشركاؤهم من المعارضين العراقيين في المنفى.

نجحت الخطة الاميركية بادئ ذي بدء فتعاونت سورية مخابرتيا مع الولايات المتحدة، وسلم القذافي اسلحته للدمار الشامل، وارسلت ايران، عبر القنوات الخلفية، رسائل الى الادارة الاميركية عرضت فيها تفكيك برنامجها النووي والتعاون في محاربة المجموعات التي تعتبرها واشنطن ارهابية في المنطقة مثل ''حزب الله'' و''حركة حماس''، في مقابل الابقاء على نظام الملالي المتطرف. لكن الاميركيين لم يأخذوا عروض اعدائهم في المنطقة على محمل الجد لانهم ارادوا تفادي الصفقات مع الانظمة الديكتاتورية الحاكمة، ومضوا قدما في ما اعتبروه عملية التغيير الجذري في المنطقة باتجاه نشر الديموقراطية.

شنت اميركا الحرب على العراق واطاحت بحاكمه صدام حسين، وانتظرت ان ينهض الشعب العراقي وينتهز الفرصة لبناء وطنه ليكون منارة مالية وديموقراطية تدفع شعوب المنطقة الاخرى الى السير في خطاه. فلطالما تغنى مثقفو العرب بالعراق على انه ''بلد المليون مهندس''، ولن يكون وقت كثير قبل ان يستعيد عافيته.

في الاسابيع الاولى بعد انهيار نظام صدام حسين، انتظرت واشنطن ظهور المليون مهندس، فاذ بها تفاجئ بمليون سارق نهبوا مؤسسات دولتهم وعاثوا فيها فسادا. وانتظرت واشنطن ان تتحول المعارضة العراقية في المنفى الى سلطة وطنية تتسلم زمام الحكم، فاذا بالمعارضة مليون فصيل متناحر يتسابقون على تقاسم الحصص في الحكم الجديد حتى قبل ان تقوم لهذا الحكم قائمة.

ثم حاولت الولايات المتحدة التقليص من تدخلها في شؤون العراق فحلت ما كان يعرف بسلطة التحالف المؤقتة وحصرت نشاطات جيشها في قواعده فاندلعت حرب اهلية بعدما حاولت مجموعات شيعية الاخذ بثأرها من رجال النظام السابق، ومعظمهم من السنة. اذ ذاك جاءت ردة الفعل السنية واختلطت بالتطرف السني على شكل ''تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين'' و''جمهورية العراق الاسلامية'' وما شبههما.

هذه الفوضى العراقية، التي رافقها جهل اميركي تام بكيفية التعامل مع العراقيين، استهلكت الكثير من الرصيد السياسي لادارة الرئيس جورج بوش ومن المال والعسكر. وعلى الرغم من النزيف الاميركي، اصر بعض القياديين الاميركيين من امثال وزير الدفاع السابق دونالد رامسفلد على الابقاء على الوضع السائد وكان غالبا ما يردد ان العراقيين كالولد الصغير الذي يحاول تعلم ركوب الدراجة الهوائية فيقع مرات عديدة الى ان يتعلم.

ولكن تكرار الكبوات العراقية كان مكلفا للاميركيين واجبر الرئيس بوش على اجراء بعض التغييرات في ادارته فانتقل الملف العراقي من رامسفلد المقال الى وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس التي اوصت بتعيين روبرت غايتس خلفا لرامسفلد. وقرر الفريق الاميركي الجديد التدخل بقوة لفرض الامن في العراق وارتكزت الاستراتيجية، التي عرفت لاحقا بخطة ''زيادة القوات''، على زيادة النشاط العسكري الاميركي في العراق والاتصال بالقبائل العراقية، السنية والشيعية، وحثها على الانضمام الى المشروع الاميركي لتثبيت الوضع، مقابل اتعابها المدفوعة بالكامل من المال الاميركي.

نجحت خطة ''زيادة القوات'' في تأمين مخرج مشرف للاميركيين من المستنقع العراقي وبدأت القوات الاميركية بتخفيض عديدها في العراق على طريق الانسحاب شبه الكامل منه. وصار العراق، مثل لبنان، دولة شبه ديموقراطية حيث تكره المؤسسات مبدأ التصويت وتسعى الى التوافق دائما خارج المؤسسات والذهاب الى المؤسسات للتصديق على ما تم اقراره سلفا.

واخذ العراقيون عن اللبنانيين ''المشاركة في الحكم'' بأسوأ اشكالها وادخلوا عليها التعديلات فصار لديهم، بالاضافة الى مبدأ توزيع الرئاسات الثلاثة على مجموعات العراق الكبرى الشيعية والسنية والكردية، مبدأ ''فصفصة'' كل واحدة من الرئاسات واضافوا الى كل رئيس، اي رؤساء الجمهورية والبرلمان والحكومة، نائبي رئيس لتكرير المثالثة في ديموقراطية مزعومة لم يعرف لها التاريخ سابق.

وفيما يستغرق العرب، عراقيين ولبنانيين، في ''تحصيل حقوق طوائفهم'' واتباعها ''بمصالحات وطنية''، واعادة الكرة كل يوم وفي كل ساعة، استخلص الاميركيون الكثير من العبر عن دول العرب وعن الامكانيات المتاحة في منطقة الشرق الاوسط لعقد التحالفات وشن الحروب.

من هذه العبر ان المجتمعات العربية في مطلع القرن الواحد والعشرين حافظت على بنيتها القبلية نفسها منذ فجر التاريخ. هذه القبلية استخدمتها الامبراطورية البريطانية في مطلع القرن الماضي لتأليب العرب على حكامهم الاتراك. وعاد الاميركيون الى ذاكرة التاريخ ليطالعوا ان المخابرات البريطانية في القاهرة، او ما كان يعرف بالمكتب العربي، كانت اول من لاحظت ''عدم التناسق'' في حال نشوب مواجهة بين القبائل العربية والجيش العثماني، وان هكذا مواجهة ستكلف العثمانيين لقمعها اضعاف ما سيتكلفه الحلفاء لاشعالها اثناء الحرب العالمية الاولى. وعرف الاميركيون ان اجهزة مخابرات بعض دول الجوار استغلت ''عدم التناسق'' هذا لتكبد الاميركيين اضعاف ما سيكلف هذه الاجهزة لتأليب القبائل ضدهم.

هكذا، لجأ الاميركيون الى القبائل واستمالوها ودفعوا ثمن ولاءاتها واستنتجوا ان لا خلاص في بلاد العرب من دون الاستعانة بالنظام القبلي اذ لا الاستعمار، ولا الحربين الكونيتين والحرب الباردة، ولا الصهيونية، ولا الافكار الشوفينية القومية، ولا عروبة عبد الناصر، ولا الافكار الماركسية نجحت في تفكيك البنية القبلية، القائمة اساسا على مبدأ حكم الاقوى لا حكم الفائز في صناديق الاقتراع.

كما استنتج الاميركيون ان معظم العقائد السياسية والدينية التي تتبناها المجموعات في العالم العربية هي غطاء لائتلافات وخلافات قبلية قديمة وحديثة وانه، بين الفينة والاخرى، تخرج قبيلة على مثيلاتها لتكتسحها وتفوز عليها وتحكمها ببطش كبير، مثل ما فعل الحكم العراقي قبل ان يطيح به الجيش الاميركي.
وعندما قلب الاميركيون النظام العراقي، عاد مناوئي صدام لاخذ الثأر منه ومن رجاله، وتجلت تلك الصورة ساعة صرخ جلادو صدام يوم اعدامه باسم رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، للدلالة على الثأر لابيه محمد محمد صادق الصدر الذي امر صدام بتصفيته. عندها عرف الاميركيون ان من كانوا يسمون انفسهم انصار الديموقراطية في عراق ما بعد صدام لم يكونوا الا اصحاب ثأر، وان الحرب الاميركية هي التي فتحت باب هذا الثأر بدلا من ان تعط العراقيين فرصة لبناء عراق ديموقراطي جديد.

ولاعادة عقارب الساعة الى الوراء، استخدم الاميركيون المال للتخفيف من الاحتقان الثأري وعملوا على تحسين وضع قوى الامن في العراق فهذه بامكانها استخدام وسائل العنف اكثر من قوات الاحتلال الاميركية التي تقيدها ديموقراطيتها بعدد كبير من الضوابط تجعل من العسكر الاميركي، من دون مقدرته على البطش، جيشا لم يعتاده العرب ولا يخيف احدا.

ان الحرب الاميركية المكلفة في العراق سمحت للاميركيين بتعديل رؤيتهم للمجتمعات العربية وامكانية نهوضها وتحولها الى دول عصرية. كما عرف الاميركيون ان اقتصاد السوق لا يجدي في هذا النوع من المجتمعات الريعية التي يعيش افرادها في شبكات زبائنية متمركزة داخل البنية القبلية.

هكذا عرف الاميركيون ان الطريق الى قلب العراقيين بأتي بارسال اكياس المال الى زعماء القبائل، وهؤلاء يتولون التوزيع والامن، وهي الفكرة التي رفضها الاميركيون اصلا وجاؤا الى العراق لايمانهم الخاطئ بان الشعوب العربية تريد العيش في ظل مبادئ المساواة والمواطنية.
وهكذا فهم الاميركيون لما يجول رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي، المنتخب من الشعب، في شوارع بغداد ليوزع المال على المارة في الوقت الذي يفشل نظيره اللبناني فؤاد السنيورة في الامساك بمقدرات حكم اغدق عليه المجتمع الدولي المال ليوزعه عبر مؤسسات الدولة اللبنانية. فالسلطة في دول العرب، منتخبة كانت ام لا، لا تحكم الى ان تنافس القبائل في بلدانها بالمال والقوة، وحينما تفعل ذلك، تتحول هي نفسها الى قبيلة اما تقهر خصومها وتبطش بهم او تتعايش معهم في لعبة تشبه مسيرة الذئاب ومعرضة للانهيار في كل لحظة.

خاتمة
ان التدخل الاميركي في منطقة الشرق الاوسط هو وريث التدخل الاستعماري البريطاني الذي سبقه منذ انهيار الحكم العثماني في العام 1918 وحتى منتصف القرن. ولكن الفارق بين الاثنين هو ان السياسة الخارجية البريطانية اعتمدت على فهم المنطقة العربية وثقافتها وتوازن القوى القبلية فيها، وبنت سياستها على هذا الاساس، كما اصبح جليا لاحقا من خلال قصة الضابط البريطاني تي اي لورنس المعروف بلورنس العرب، وكما اتضح من تاريخ الدولة العراقية التي بناها البريطانيون على توازن دقيق بين الحكم الهاشمي السني واعوانه العرب من ضباط الجيش العثماني المنحل من جهة، والقبائل الشيعية في منطقة الفرات الاوسط والجنوب من جهة اخرى.

اما السياسة الاميركية، فبدأت تجربتها في المنطقة بالتعامل مع الانظمة القائمة باعتبارها دولا تتمتع بقوميات وطنية ثابتة، فاتخذت الحلفاء ممن ساروا خلفها في مواجهة الامبراطورية السوفياتية الشيوعية، واعلنت العداء لمن فعلوا عكس ذلك. ولكن مع انهيار المنافس السوفياتي، وجدت الولايات المتحدة نفسها منفردة في ادارة الشرق الاوسط، ولكنها فشلت في خلق اي توازنات ثابتة عندما حاولت بناء الشرق الاوسط الجديد، لتتخلى عنه في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر لمصلحة التدخل العسكري المباشر في محاولة غير موفقة لخلق دول عربية ديموقراطية.

وعندما بحثت هذه القوة العظمى الاميركية في اسباب فشلها في خلق الديموقراطية في العراق، وجدت نفسها مضطرة الى العودة الى التعامل مع القبائل ومصادقتها ونسج التوازنات فيما بينها، اذ تبين ان نماذج الحكم في الدول العربية، والتي تتظاهر بتبني النموذج الغربي المتداول في الدول المتقدمة، ما هي الا سراب يختبئ خلف الحاكم الظالم الذي يحاول الايحاء بالوحدة الوطنية في بلاده وديمومة مؤسساتها. والواقع هو انه، في غياب الحاكم الظالم، تتلاشى الدول في العالم العربي وتظهر على حقيقتها، وهو انها قبائل وعشائر متنازعة على السلطة والمال، وان الحل الوحيد لانهاء هذا النزاع القبلي هو اما بتسليم الحكم لحاكم او لقبيلة واحدة تبطش بالقبائل الاخرى لتوفر الامن وتحكم، او بنسج معادلة للتعايش برعاية خارجية، غالبا غربية، من دون اي ضمانات لبقاء هذه المعادلة التي قد تنهار في اي لحظة وترسل البلاد الى نزاع داخلي، كما في لبنان والان في العراق.