أوباما وفرصة أميركا الثانية
الثلاثاء, 06-يناير-2009
محمد سيف حيدر - في حفل جرى قبل أشهر من الآن، وخلال فترة الإعداد للحملة الانتخابية الرئاسية، قام خبير السياسة الخارجية الأميركية المخضرم والمستشار الشهير للأمن القومي في إدارة الرئيس جيمي كارتر، زبيغنيو بريجنسكي، بتقديم السيناتور باراك أوباما لأول مرة بصفته "مستشاره" لشؤون السياسة الخارجية، معلناً أنه قَبِل هذا المنصب: "لأنني أعتقد بقوة أن الانتخابات الرئاسية القادمة لن تكون مجرد انتخابات لاختيار رئيس أميركي جديد فحسب، بل لأن الاختيار الذي سيقوم به الأميركيون هذه المرة سيعيد تعريف دور أميركا في حقبة تاريخية مهمة". وقال السياسي الأميركي المرموق في تقديمه الرئيس القادم: "إنه في كل أربع سنوات يختار الأميركيون رئيساً جديداً، ولكنهم بين كل فترة وأخرى يختارون رئيساً تتاح أمامه فرصة صياغة إحساس جديد باتجاه جديد لأميركا".
وكجزءٍ أساسي من فريق أوباما، أعلن بريجنسكي بوضوح أن الرئيس الديمقراطي المنتخب وفريقه يرون التحدي القادم الذي تواجهه أميركا بشكل مختلف عن أسلافهم الجمهوريين؛ فهو ليس تحدياً أيديولوجياً وإنما تحدياً متعدد الأبعاد يمتاز، حسب تعبير بريجنسكي، بثلاث ميزات: الصحوة السياسية الكونية والتي تعبر عن نفسها على شكل النشاطات السياسية المكثفة في مختلف أنحاء المعمورة، ثم هناك الأخطار والتهديدات التي تواجه العالم مثل التغير في المناخ والفقر وانعدام العدالة. والبعد الثالث والأخير هو التغير في مركز القوة الكونية وتوجهها من العالم الأطلسي إلى الشرق الأقصى. وهنا لا يتم الحديث عن انهيار العالم الأطلسي، وإنما نهاية الهيمنة الأطلسية التي امتدت لقرون. وبناء على ذلك، ستحدد مكانة ودور الولايات المتحدة حسب الطريقة التي تستجيب فيها أميركا لهذا التحدي المعقد.

"مانفيستو جديد" لسياسة أميركا الخارجية
وكان بريجنسكي قد أصدر في العام الماضي (2007)، كتاباً مهماً ما انفك البعض ينظر إليه بوصفه "مانفيستو" السياسة الخارجية لباراك أوباما. الكتاب، الذي يحمل عنواناً مُعبّراً هو "الفرصة الثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوة العظمى الأميركية"، يعد استمراراً لكتب سابقة لبريجنسكي كـ "الاختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم" الذي صدر في عام 2004، وكتاب "رقعة الشطرنج الكبرى: الأولية الأميركية ومتطلباتها الجيوستراتيجية" الصادر في عام 1997 الذي يبحث في المسئوليات والأخطار التي تواجه أميركا كقوة عظمى، وحيدة في العالم بعد الحرب الباردة. وكعادته في سائر كتبه، يستخدم بريجنسكي أسلوباً رشيقاً وجاداً، مستفيداً من سعة إطلاعه في التاريخ والسياسة الخارجية لعرض وجهات نظره بإيجاز يعبر فيه عن فهمه لعقابيل ما يحدث جراء الإجراءات العسكرية والسياسية المتخذة بحق منطقة ما على منطقة أخرى في العالم، في ضوء ما يكنه من عداء للإمبريالية التي يقودها الغرب.‏
وفي كتابه الأخير "الفرصة الثانية" يقول بريجنسكي أن ثمة قوة عظمى واحدة، وخمس عشرة سنة، وثلاثة رؤساء؛ وأن هذا هو باختصار محور اهتمام هذا الكتاب، الذي يعتبره "بياناً ذاتياً" لا تاريخاً مفصلاً يحاول فيه الإجابة عن الأسئلة التالية: كيف فسّر قادة/ رؤساء العالم الأميركيون الثلاثة الأوائل - جورج إتش دبليو بوش، ووليام جي. كلينتون، وجورج دبليو بوش - جوهر الحقبة الجديدة التي تلت نهاية الحرب الباردة؟ هل كانت تقودهم رؤية ذات صلة بالتاريخ، وهل اتبعوا استراتيجية متّسقة؟ أيٌّ من قراراتهم السياسية الخارجية ترتّبت عليه أهم النتائج؟ هل تركوا العالم أفضل مما كان علية أم أسوأ، والموقف الأميركي في العالم أقوى أم أضعف؟ وما هي الدروس الأساسية التي يجب استقاؤها للمستقبل من أداء أميركا في السنوات الخمس عشرة الماضية باعتبارها القوة العظمى العالمية الأولى؟
وبعبارة أخرى يحاول الكتاب تقديم تقييم شامل لحقبة الرؤساء الأميركيين الثلاثة الذين قادوا الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة، ليس كرؤساء للولايات المتحدة وحسب، باعتبارهم قادة العالم أيضاً.

بوش (الأب) وسياسته في عالم جديد
في البداية يذكرنا بريجنسكي بالمتغيرات التي حصلت منذ سقوط جدار برلين عام 1989 الذي تبعه انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث لم تتعرض أميركا في تلك الحقبة لأية منافسة أو أخطار سواء من الغرب أو الشرق أو الجنوب، إذ كانت قبلها تخوض حرباً باردة لعدة عقود في الرقعة الأوربية - الآسيوية ضد غريمها الشيوعي. وفي هذا الإطار، يلاحظ بريجنسكي أن القيادة المطلقة للولايات المتحدة للعالم تذكر بمراحل تاريخية سابقة أحرزتها بعض الدول، مثل بريطانيا منتصف القرن التاسع عشر عندما سميت "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، وبقيادة نابليون لفرنسا وأوربا أوائل القرن الثامن عشر. فاليوم تنتشر القوات الأميركية في جميع أنحاء العالم، ولكن هل تمارس الولايات المتحدة قيادتها الدولية بمسئولية وفعالية من أجل الأمن والرفاه الأميركي والعالمي؟ ويحذر من أنه كما تعرضت القيادة البريطانية والأميركية للعالم للانهيار فإن القيادة الأميركية مهددة بدورها بالزوال. فبعد عقد ونصف من تفردها بقيادة النظام العالمي الجديد، أصبحت النظرة للولايات المتحدة تتسم بالعدوانية بعد أن تبين عدم صدقيتها وغوصها في مستنقع الشرق الأوسط، الأمر الذي أدى إلى ابتعاد أنصارها السابقين عنها.‏
وعلى الرغم من أن بريجنسكي يحمل الرئيس الحالي جورج بوش (الابن) المسئولية عن تقويض الموقع الجيوسياسي للولايات المتحدة وسوء فهم الواقع التاريخي، لكنه في الوقت ذاته يشير إلى سوء التقدير وضياع الفرص المرتكبة من قبل سلفيه في البيت الأبيض.‏
ومع أنه يمتدح جورج بوش (الأب) لجهة تعاطيه مع انهيار الاتحاد السوفييتي برباطة جأش واستطاعته حشده الرد الدولي لغزو الكويت بمهارة دبلوماسية فائقة واتخاذه القرار العسكري المناسب، لكنه يرى في المقابل بأنه فشل في تحقيق نصر تاريخي دائم. ويجادل بريجنسكي بأن بوش الأب لم يستخدم تأثير أميركا السياسي والشرعية الأخلاقية للمساعدة في تحويل روسيا إلى دولة ديمقراطية حقيقية، كما لم يستخدم النصر المحقق في حرب الخليج الأولى استراتيجياً للضغط من أجل عقد اتفاق إسرائيلي- فلسطيني يُنهي الصراع الأساسي في الشرق الأوسط بشكل حاسم.‏ ولهذا سرعان ما تدهورت النظرة إلى دور الولايات المتّحدة في المنطقة، وأصبحت شعوب المنطقة تنظر إلى أميركا على أنها الوريث الإمبريالي للإمبراطورية البريطانية ووكيل إسرائيل، الذي يرفع شعار السلام ثم ينخرط في انتهاج تكتيكات المُماطلة والتسويف لتمكين إسرائيل من التوسع في الاستيطان، والمُضي في سياسة الحصار والاحتلال.

عصر كلينتون: رؤية مثالية وميراث متناقض
شكّل الرئيس التالي بيل كلينتون، برأي بريجنسكي، تحولاً كبيراً في السياسة الأميركية؛ فقد اعتبر أن السياسة الداخلية هي التي تصنع السياسة الخارجية وليس العكس. ويصف بريجنسكي كلينتون بأنه كان ذكياً ومثالياً، ويملك رؤية جذابة للمستقبل، وربما يكون أفرط في التشديد على آثار العولمة الحميدة، لكنه - اعتماداً على عولمة تقودها بلاده- استطاع تحويل عجز الموازنة الأميركية في الإدارات السابقة إلى فائض كبير.
ويعتقد بريجنسكي أن بيل كلينتون يستحق أن يكون موضعاً لثقة الأمة لأنه قطع أشواطاً بعيدة في القيام بتسوية في الشرق الأوسط في كامب ديفيد الثانية، ولدعمه حلف الأطلسي ولمساهمته الواضحة في تحقيق الاستقرار في البلقان، لكنه في ذات الوقت يرى في أسلوب كلينتون أسلوباً انتهازياً عادياً من الناحية السياسية ولا يحقق الوضوح الاستراتيجي، وأن إيمانه في الحتمية التاريخية للعولمة جعل من تلك الاستراتيجية عديمة الجدوى، كما أنه لم يُلقِ بالاً لمحاولات اختراق الحائط الذي استهدف حظر الانتشار النّووي، وهو ما مكّن كلاً من كوريا الشمالية والهند وباكستان من اختراق هذا الحائط.
ولعل ميراث كلينتون الأكثر شؤماً وإحباطاً باعتقاد بريجنسكي يتمثّل في فشله في استغلال الفرص التي ظهرت مرتين على الأقل بخصوص العلاقة الإسرائيلية - الفلسطينية. وبسبب الأهواء الذاتية لبعض أصحاب المصالح المؤثرين، فإنه لم يستطع أن يجعل - كما كان يحلم- استخدام رأس المال الأخلاقي والسياسي للولايات المتحدة لصالح الخير العالمي الأوسع، بل إن الكونغرس بعد غلبة الجمهوريين عليه عام 1994 دعم إجراء تخفيضات ضريبية لصالح الموسرين وأصحاب الشركات والمصالح الكبرى.

بوش (الابن) وقيادته الكارثية 
أما الرئيس الحالي جورج بوش (الابن)، فإنه في رأيه يستحق تقدير "فاشل"، لأن سِجِّله حافل بالكوارث والمصائب، وفي عهده انحدرت قُدرة الولايات المتحدة على حشد التأييد الدولي وتشكيل الحقائق على مستوى العالم، كما أن الولايات المتحدة تورّطت تحت رئاسته في حرب كارثية في العراق، وأصبح المجتمع الأميركي أسيراً للخوف والعزلة. وطبقاً لتحليل بريجنسكي فإن ما يدفع رئاسة بوش (الابن) حتى الآن خارج الخط، هو مزيج من تفاؤل مشرق "لنهاية التاريخ" بخصوص قدرة أميركا على فرض قيمها مع كآبة "صدام الحضارات" بخصوص التهديد، الذي يمثل العدو المسلم.
وفي نهاية الكتاب يلخص بريجنسكي الجوهر التاريخي الخاص بكل واحد من الرؤساء الثلاثة بالقول: كان بوش الأول الشرطي الذي يعتمد على القوة والشرعية للمحافظة على الاستقرار التقليدي. وكان كلينتون داعية الرفاه الاجتماعي الذي يعتمد على العولمة لإحداث التقدم، وكان بوش الثاني شرطياً أهلياً يعبئ المخاوف الداخلية لمتابعة كفاح وجودي أعلن عنه بذاته ضد قوى الشر. ولكن قيادة أميركا بتقييمه كانت سيئة، فقد شهدت قدرة الولايات المتحدة على التعبئة والإلهام والإشارة إلى اتجاه مشترك وصياغة الحقائق العالمية تراجعاً كبيراً، وأصبحت القيادة الأميركية للعالم خائفة ووحيدة في عالم معاد سياسياً.
ويجد بريجنسكي أن أهم الاتجاهات الجيوسياسية الرئيسية المعاكسة للولايات المتحدة في السنتين الأخيرتين تكمن في النقاط التالية: اشتداد العداء للغرب في كل أنحاء العالم الإسلامي، وتفجر الوضع في الشرق الأوسط، وسيطرة إيران في الخليج، وتقلب الأوضاع في باكستان التي تمتلك أسلحة نووية، والسخط الأوروبي، والاستياء الروسي، وإقامة الصين مجموعة آسيوية مشرقية، وزيادة عزلة اليابان في آسيا، والموجة الشعبية المعادية للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية، وانهيار نظام عدم الانتشار النووي.

الفرصة الثانية لأميركا أوباما
على أن أميركا -كما يؤكد بريجنسكي- ستحظى بفرصة ثانية ولكن بعد عام 2008 (أي بعد رحيل بوش الابن) فلا فرصة لأميركا أبداً مع وجوده. ويُنبّه بريجنسكي الرئيس القادم (باراك أوباما كما أصبح معروفاً لدى الجميع) إلى أنه يلزمه في المرحلة القادمة سنوات من الجهد المتأني والمهارة الحقيقية لاستعادة مصداقية أميركا السياسية وشرعيتها. وعلى الرئيس المنتخب أن يستقي الدروس الإستراتيجية من أخطاء أميركا الأخيرة بالإضافة إلى نجاحاتها الماضية. ويؤكد بريجنسكي أن إمكانية قبول أميركا كزعيمة عالمية في المستقبل ستتوقف على قدرتها على الإجابة عن الأسئلة المعقدة المتعلقة بما يلي:
1. طبيعة النظام الأميركي نفسه: هل النظام الأميركي مجهّز بنيوياً لصياغة سياسة عالمية لا تحمي المصالح الأميركية فحسب، لكنها تعزز أيضاً أمن العالم ورفاهه والمحافظة عليها؟
2. النموذج الاجتماعي الأميركي في عالم تتصاعد آماله: هل المجتمع الأميركي جاهز للمحافظة على دور قيادي عالمي يدعو إلى درجة من ضبط النفس المسئول المستمد من فهم أساسي للاتجاهات العالمية؟
3. الاستيعاب الأميركي لحالة العالم الجديدة: هل ستشعر الأمة بشكل غريزي ما تعنيه اليقظة السياسية العالمية ضمناً بالنسبة إلى مستقبل أميركا؟
ويختم بريجنسكي كتابه بالقول: "لا مندوحة عن أن تكون فرصة أميركا الثانية بعد سنة 2008 أكثر نجاحاً من الأولى إذ ليس هناك فرصة ثالثة. فثمة حاجة ملحّة لأن تصيغ أميركا سياسة خارجية عالمية حقاً في أعقاب الحرب الباردة. ولا يزال بوسعها القيام بذلك شريطة أن يدرك الرئيس القادم أن "قوة الدولة العظمى تتقلص إذا توقّفت عن خدمة فكرة ما"، وأن يربط بشكل ملموس القوة الأميركية بتطلعات الإنسانية اليقظة سياسياً".


الكتاب: الفرصة الثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوة العظمى الأميركية
تأليف: زبيغنيو بريجنسكي
ترجمة: عمر الأيوبي
الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت
سنة النشر: 2007
عدد الصفحات:223 صفحة