ثقافة السلم ضرورة: مفهومها وآفاقها
الأحد, 04-يناير-2009
د. عبد الملك منصور * - يواجه العالم مشكلات عدة منها الفقر والمرض والتغيرات البيئية و... الخ ومن بين هذه المشكلات المثيرة للقلق تلفت الانتباه اكثر مشكلة الصراع والعنف والتي تبدو الأشد إقلاقا لكونها الأكبر تكلفة للمجتمع البشري. واذا ما تغاضينا عن الآثار السلبية الهائلة للصراع غير العنيف من الصراعات السياسية والاقتصادية والاعلامية والايديولوجية نجد أن الصراع العنيف، سواء كان صراعا مع النفس او صراعا مع الغير وسواء اتخذ هذا الاخير شكل العنف الاجتماعي او شكل الإرهاب او شكل الحرب السافرة، يكلف المجتمع البشري الكثير من الضحايا و التدمير بالاضافة الى استنفاده جزءا كبيرا من الموارد البشرية والمادية في مجالات غير انتاجية او ضارة (الجيوش والصناعات الضارة) مما ينعكس سلبا على قدرة المجتمع على مواجهة مشكلاته الاخرى المشار الى بعضها نفا وقدرته على تحقيق التنمية والتقدم وقدرته على الإبداع.
واذ يبدو الصراع الصدامي او العنف أعلى مشكلات المجتمع البشري تكلفة وضررا تتجلى بوضوح أهمية وضرورة السلم للمجتمع البشري باعتباره نقيض العنف وبديل الصراع الدامي وعلاجهما.فالسلم:
- ضروري لحماية الانسان وصون حقوقه والتي تتعرض حتما للانتهاك في حالات العنف والصراع.
- ضروري لتحرير الموارد البشرية والمادية من الاستهلاك الصراعي وتوجيهها لحل مشكلات المجتمع البشري وتحقيق التنمية والبناء.
- ضروري لتأمين الانسان من استبداد الخوف به مما يشل قدراته ويعوقه عن الابداع الحضاري والذي لا يتحقق على النحو الامثل الا في ظل الامن والسلم.
- يساعد على الوصول للاهداف بتكلفة اقل وييسر الوصول للحقيقة والرجوع للحق اذا ما بان، بينما غالبا ما يتعسر الرجوع للحق في ظل الصراع.
- يستجيب لفطرة الانسان في البحث عن الامن وغريزته في طلب حفظ الذات.
- توجبه و تأمر به الاديان، ودعا اليه الكثير من المفكرين والفلاسفة بمقتضى العقل. 

دور العامل الثقافي في الصراع و السلم:
للصراع اسبابه كما للسلم مقوماته. ومن اسباب الصراع وعوامله الدوافع الغريزية، والشعور بالخطر او الظلم، والفقر، والانحرافات النفسية والعقلية، وضعف العلاقات والروابط، - وفي ما تؤكده الاديان بينما ينكره البعض ـ وجود طرف ثالث يتمثل في الشيطان المنقطع لبث العداوة والعنف بين البشر. ومن مقومات السلم العدل والامن والتنمية الشاملة وتزكية النفس.
ويفيد النظر أن من اهم الامور المشتركة بين اسباب الصراع ومقومات السلم الثقافة. فالثقافة، ممثلة بالدين ثم الايديولوجيا، مثلت اهم عنصر دارت حوله اكثر حروب التاريخ المكتوب. وحتى اسباب الصراع الاخرى لا تخلو من بعد ثقافي مؤثر، فالدوافع الغريزية وما يتعلق بها من الاسباب الاقتصادية للصراع والعنف هي دوافع مشتركة عند سائر البشر ولا تؤدي بالضرورة الى الصراع والعنف وانما تتحول عند البعض الى اسباب للصراع والعنف اساسا بفعل طبيعة تصوراتهم الكلية وطرق تفكيرهم والتي تمثل جزءا من ثقافتهم. والشعور بالخطر او الظلم لا يؤدي بالضرورة الى الصراع والعنف وانما تتوقف طبيعة رد الفعل على ـ بالطبع ضمن عوامل اخرى ـ طبيعة ثقافة صاحبه. وعموما فان الجنوح للصراع والعنف هو اساسا خلل في التفكير والخلل في التفكير شأن/خلل ثقافي بالدرجة الاولى. ولعل في بعض الاقوال والامثال السائدة في العالم من مثل المثل الانجليزي "الحرب تبدأ في عقول البشر" والقول العربي الشائع "الحرب اولها كلام" ما يشير الى أن العقل البشري قد ادرك منذ القدم دور العامل الثقافي في اثارة الصراعات والحروب.
وفي المقابل، فان اكثر ما ساد المجتمعات السلم في التاريخ كان عقب حركات ثقافية غالبا ما كانت دينية او دينية الطابع ألّفت بين قلوب افراد تلك المجتمعات وفئاتها المتصارعة، وغالبا ما ارتبطت عودة هذه المجتمعات الى الصراع بضعف فاعلية تلك الحركات. ولعل المجتمع العربي يعد مثالا نموذجيا لذلك. كذلك تنطوي مقومات السلم الاخرى على ابعاد ثقافية جلية، فالعدل والتنمية ـ مثلا ـ مفهومان ثقافيان مثيران للجدل وللثقافة دورها المشهود في الدفع اليهما او عنهما. وصحيح أن وجود سلطة عامة ضروري لتأمين العدل وتوفير الامن وتحقيق التنمية الا أن السلطة العامة انما تقوم بتلك المهمة بفضل ثقافتها التي تبين لها وجوب العدل واهمية الامن والتنمية وأن أي سلطة عامة تفتقر الى الحد الادنى اللازم من مثل تلك الثقافة لا تملك أن لا تتحول الى قوة تخل بالعدل وتسلب الامن وتعوق التنمية وتصبح اداة ظلم ومصدر خوف وعامل تخلف.
إذن فالثقافة لها دور مزدوج: دور خطير وحاسم في الدفع الى الصراع والعنف وتغذية اسبابهما عندما تكون ثقافة عنف وصراع ودور مهم واساسي في الدفع الى السلم وتعزيز مقوماته عندما تكون ثقافة سلم.
واذا كانت ثقافة السلم بتلك الاهمية البالغة المستمدة من اهمية دورها في كبح الصراعات والعنف وتحقيق وتعزيز السلم فماذا تعني ثقافة السلم؟ 

مفهوم ثقافة السلم:
منذ أن بدأت تولي اهمية خاصة ومكثفة لمفهوم ثقافة السلم منذ نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، بدأت تكوينات الامم المتحدة وخاصة اليونسكو تحاول بلورة تعريف لثقافة السلم. وقد انتهت اجتهادات اليونسكو او الاجتهادات التي تعرضها بهذا الخصوص - في ما اطلعنا عليه - الى تعريف اجرائي طويل يرصد عددا من الاجراءت/المقومات التي تقوم عليها، وتحقق، ثقافة السلم.
وليس المقام لرصد وتقييم التعريفات السابقة او محاولة بلورة تعريف بديل لثقافة السلم. على أن المقام يستدعي، ولعله يتيح ايضا، بعض هذه الملاحظات التي نوردها بيانا لبعض جوانب مفهوم ثقافة السلم.
إن مفهوم ثقافة السلم مفهوم مركب يجمع بين مفهومي الثقافة والسلم كمضاف ومضاف اليه. ويعني ذلك انه بقدر وضوح او غموض هذين المفهومين يكون وضوح او غموض مفهوم ثقافة السلم. وعندما يكون المفهوم مركبا من مفهوم مضاف واخر مضاف اليه فان المفهوم المركزي او المحدد يكون عادة هو المفهوم المضاف اليه ـ وهو هنا السلم ـ والذي يتحدد تبعا له طبيعة او نوع المفهوم المضاف وهو هنا الثقافة.
والسلم لغة هو الخلو من ما هو معيب او غير مرغوب فيه. والمعنى الشائع او المتبادر للذهن من لفظ السلم هو انتفاء الحرب و قد يتسع هذا المعنى عند البعض ليشمل انتفاء أيّ اعتداء مسلح او بدني. وتأسيسا على ذلك يمكن القول إن المعنى المتبادر للسلم يتمحور حول انتفاء العنف المادي من الغير او عليه وسواء كان هذا العنف المادي حربا او ارهابا او تعذيبا او اغتيالا او تهديدا بشيء من ذلك. و يلاحظ على هذا المعنى السائد على مختلف المستويات انه:
ـ يركز على العنف المادي الصادر عن الغير او الذي يتعرض له الغير ويغفل العنف المادي الذي يمكن أن يلحقه الشخص بنفسه أي العنف الذاتي كالانتحار. ومن الواضح أن العنف الذاتي يتضمن اخلالا بالسلام مع النفس والذي لا ينبغي الاقلال من اهميته ليس فقط لان العنف الذاتي كثيرا ما لا يخلو من عنف ما بالغير وانما ايضا لان ذات الاسس التي تمنع العنف مع الغير تمنع ايضا العنف مع النفس وأن من لا يسالم نفسه عادة ما يكون اقرب لأن لا يسالم الغير.
وللعنف الذاتي مدلولات عدة قد لا يكون هناك اختلاف كبير على اعتبار بعضها عنفا ومن ذلك الانتحار وربما ايضا جلد البعض لاجسادهم . على أن هناك سلوكيات شائعة لم يجر العرف على تصنيفها ضمن العنف رغم انها تنطوي على عنف مادي يلحقه الانسان بنفسه ومن تلك السلوكيات، مثلا، ادمان المخدرات والمسكرات والتبغ . والواقع انه اذا كان الانتحار عنفا مع الذات مرفوضا فانه من غير المنطقي عدم تصنيف، مثلا، التدخين عنفا مع الذات اذ لا يختلف التدخين عن كونه انتحارا بطيئا. واذا تقرر أن التدخين عنف مع النفس لا يعد مقبولا عدم تصنيف صناعة التبغ عنفا مع الغير مرفوضا. واذا اخدنا في الاعتبار احصائيات منظمة الصحة العالمية والتي تفيد بان التدخين قد قتل حوالي خمسين مليون نسمة في العالم في عام 2003 وأن هذا العدد سيتضاعف بحلول عام 2030 اتضح لنا أن بعض السلوكيات التي لا نعتبرها عنفا قد تكون اكثر ضحايا و قتلى من السلوكيات التي لا نختلف في اعتبارها عنفا كالحروب.
ـ يركز على العنف المادي ويغفل العنف المعنوي مع أن هذا الاخير قد يكون اشد ايلاما واذى من الاول مما يجعل امرا غير مبرر أن يعد العنف المادي إخلالا بالسلم بينما لا يعد العنف المعنوي إخلالا به. والعنف المعنوي قد يكون عنفا لغويا كما في حالة استخدام الفاظ مؤذية كألفاظ السب والسخرية (سبق وتناقلت وسائل الاعلام خبر طالبة صينية انتحرت بسبب وصف المعلم لها بالقبح)، او عنفا سلوكيا كالتمييز العنصري او عنفا فقهيا كاصدار فتاوى التكفير واهدار النفس المحرمة، او عنفا اعلاميا كمصادرة ما ينشر او عرض/بث ما فيه اذى بمشاعر الاخر او تعريض له لمتاعب محتملة (حالة خبير الاسلحة البريطاني)، او عنفا ـ لنسمّه ـ مضمرا او كامنا كالحسد وتمني الشر للغير والدعاء عليه باغلظ الدعوات (يلاحظ مثلا أن بعض الائمة/الخطباء في المساجد ـ و ربما الامر كذلك في الكنائس والبِيَع ـ يعمون بدعواتهم الغليظة، مثل الدعاء بتجميد الدماء في العروق والزلازل وغيرها من الكوارث الشاملة الدمار، كل النصارى وغيرهم، المحاربين منهم وغير المحاربين بما فيهم الاطفال. ولم اسمع أحدا يدعو لهم بالهداية والكف عن العدوان مع أن المطلوب هو كفهم عن الاعتداء علينا وأن الله الذي ندعوه قادر على أن يفعل ذلك بوسيلة رفيقة كأن يهديهم إن لم يكن للاسلام فللسلم بقدر ما هو قادر على أن يفعله بوسيلة عنيفة. ترى لماذا نختار العنيفة مع أن الرفيقة يمكن أن تؤدي الغرض وافضل لنا لما قد يكون فيه من اجر الهداية بفضل الدعاء؟!).
- يعنى بالسلم بين بني البشر ويغفل السلم بين البشر وغيرهم وهو ما لا يبدو مبررا ليس فقط للارتباط الواضح بينهما وانما ايضا لان ذات الاسس التي توجب السلام للبشر توجبه لغير البشر ايضا فالعنف كما يضر البشر ويؤلمهم يضر بغير البشر ويسبب الالم لمن يحس به منهم. وان كنا نعتقد أن الجمادات لا تحس، وهو اعتقاد لا نملك ادلة علمية كافية عليه، فان من الواضح أن، على الاقل، الحيوانات تحس وتتألم للتعامل العنيف معها.
توضح الملاحظات السابقة الحاجة الى توسيع المعنى الشائع للسلم افقيا ليشمل بالاضافة الى السلم البدني السلم المعنوي ويشمل بالاضافة الى السلم بين افراد البشر السلم بين البشر ومن/ما حولهم من غير البشر وكذا السلم مع الله فليس من مصلحة البشر أن يحاربوا الله ويعادوه .
وبالاضافة الى توسيعه افقيا، يتعين تطوير مفهوم السلم رأسيا او نوعيا. فمن حيث النوع، بناء علة الاساس او الدافع، يكون السلم اما سلما سلبيا واما سلما ايجابيا. ويقوم السلم الايجابي على الاختيار الطوعي والواعي والمؤسس على الاقتناع بالسلم والالتزام المبدئي بتمكينه واستدامته. واما السلم السلبي فيقوم على الاضطرار الذي مرده اما العجز او الرغبة عن الاعتداء او الانصراف عنه لسبب او اخر كالضعف او توازن القوى او الخوف على فوات مصلحة ما بالاعتداء.
وبالمعنى المشار اليه لا يعدو السلم السلبي ان يكون مجرد انتفاء للعنف المسلح/البدني فرضته ظروف معينة كالسلم الذي تحرسه قوات حفظ السلام. ولانه يفتقر لارادة وقيم ومبادئ السلم ومقوماته بل كثيرا ما لا يخلو من إضمار اطرافه او بعضهم ارادة مناقضة للسلم تتحين الفرص وتعد العدة لانتهاكه فان السلم السلبي يكون عادة محدودا افقيا ويميل لان يكون سلما هشا قلقا قابلا للزوال بزوال الظروف التي تفرضه او ظهور فرصة مناسبة لانتهاكه.
وفي المقابل فان السلم الايجابي يكون اوسع واشمل من مجرد انتفاء العنف المسلح/البدني اذ انه يقوم على التزام اطرافه الطوعي ليس فقط بالامتناع عن العنف ماديا كان ام معنويا والابتعاد عن اسبابه وانما ايضا بالعزم والعمل على معالجة اسباب العنف وتجفيف منابعه ومصادره المحتملة والحرص على حل النزاعات بالطرق السلمية والودية ـ وفي نفس الوقت ـ السعي لتمثل قيم السلم ومبادئه وتجذير وضع السلم من خلال تعزيز مقوماته وازالة معوقاته ومهدداته والدفاع عنه ومقاومة اغراءات الاخلال به. والسلم الايجابي غالبا ما ينحو لان يكون ـ افقيا ـ سلما شاملا يجمع الى السلم مع البشر السلم مع البيئة ومع الله، ويميل الى الاستمرار والدوام.
واضح مما سبق أن السلم الامثل ليس هو السلم السلبي وانما هو السلم الايجابي. واذا تقرر ذلك انبنى عليه أن ثقافة السلم التي يتعين علينا نشدانها والدعوة اليها انما هي ثقافة السلم الايجابي وليس ثقافة السلم السلبي. والفرق بين الثقافتين كبير جدا.
فثقافة السلم السلبي هي اقرب الى ثقافة الصراع المكبوت منها الى ثقافة السلم لانها تفتقر لقيم ومبادئ السلم بدليل أن أصحابها عادة ما لا يلجأون للسلم الا اضطرارا واذا ما لجأوا اليه فانهم غالبا ما يظلون يضمرون العنف ويمارسونه متى ما سنحت الفرصة او أمنوا عواقبه. وفي بعدها النظري تكون ثقافة السلم السلبي غالبا ثقافة بعدية تبريرية ضعيفة بمعنى أن السلوك العملي (الثقافة السلوكية) هو الاصل في السلام السلبي وهو الذي يولد الثقافة النظرية والتي تأتي انعكاسا للسلوك العملي أي الواقع القائم وتبريرا له ولا تمارس دورا توجيهيا للسلوك العملي ولذلك فهي بالضرورة ثقافة ضعيفة ضعف السلم السلبي المقترن بها.
اما ثقافة السلم الايجابي والتي هي ثقافة السلم التي يتعين أن ننشدها فيستنتج من مجمل ما تمهد عن مفهوم السلم انها منظومة من القيم والمبادئ والمفاهيم والتوجهات والمواقف والسلوكيات التي تؤسس للسلم بمعناه الاشمل والامثل وتشكل معا مضمونه وتعمل على استثماره بما يساعد على حمايته وانمائه واستمراره. ويتضح من ذلك:
ـ ان ثقافة السلم ليست مجرد ثقافة نظرية كما قد يتصور البعض وانما هي ثقافة نظرية (قيم ومبادئ ومفاهيم) وثقافة سلوكية (مواقف ومشاعر واتجاهات عملية وسلوكيات) متمازجتان ومتكاملتان.
ـ العلاقة بين الثقافة النظرية والثقافة السلوكية العملية في ثقافة السلم علاقة تبادلية تداعمية حيث انه كما ان التفكير السلمي يعزز السلوك السلمي فان السلوك السلمي ايضا يعزز التفكير السلمي، وتلعب الثقافة النظرية دورا توجيهيا اساسيا في تحديد وتشكيل السلوك العملي السلمي.
ـ ثقافة السلم، شأن أي ثقافة اخرى، ثقافة قابلة للنماء والاستمرار كما هي قابلة للتدهور والاضمحلال ومع أن لكل من النماء والتراجع اسبابه وعوامله فان عوامل الانماء والاستمرار لا تتوافر الا بتوافر جهد بشري واع ومكثف بينما يكفي لتوافر عوامل التدهور مجرد غفلة الانسان/المجتمع عن اهمية السلم والعمل من اجله، ولعل ذلك يفسر لنا ارتباط حالات تحسن السلم في المجتمعات عبر التاريخ بصعود حركات/جهود سلمية يقودها رواد ذوو عزم وارتباط حالات اضمحلال السلم وتراجعه بتراجع او غياب مثل تلك الحركات او الجهود.
ـ ثقافة السلم لا توجد كثقافة مستقلة ومنفصلة تماما عن باقي ثقافة الانسان/المجتمع بل هي تتداخل معها وتنبث فيها وتلتحم بها وبحيث ان كل تقسيماتنا الافتراضية للثقافة يمكن أن تكون اما ثقافة سلمية واما ثقافة غير سلمية. وعلى سبيل المثال فان الثقافة الدينية تكون ثقافة سلمية بقدر ما هي تكرس القيم والمبادئ الداعية للسلم مع الله والنفس والبيئة، والثقافة التنموية تكون ثقافة سلمية بقدر كفاءتها في استثمار السلم في تحقيق تنمية تعزز مقومات السلم كالعدل الاقتصادي والتوازن الاجتماعي ورفع مستوى المعيشة، والثقافة الجنسية تكون ثقافة سلمية بقدر اسهامها في توظيف الطاقة الجنسية لخدمة السلم وفي تامين تصريفها بعيدا عن الاساليب العنيفة كالاغتصاب، والثقافة السياسية تكون ثقافة سلمية طالما كان تركيزها على قيم الحوار والتعايش والنهج التوفيقي والحلول السلمية للنزاعات.
ـ مفهوم ثقافة السلم، شأنه شأن أي مفهوم ثقافي اخر، هو نتاج للثقافة القائمة وانعكاس لها وبالتالي فهو يتطور ويتوسع مع تطور وتوسع الثقافة. ويتنافى ذلك مع أي زعم بإمكان تقديم مفهوم نهائي ثابت لثقافة السلم. 

آفاق ثقافة السلم:
لعل اهم ما يرجح أن يكون له الدور الاساسي في تشكيل الافاق المستقبلية لثقافة السلم هو الواقع الحالي لثقافة السلم و ما يعتمل في هذا الواقع من عوامل او بذور التغيير من جهة وعوامل الاستمرارية والجمود من جهة اخرى.
لا يخفى أن الواقع يشهد جهودا ملحوظة لتكريس ثقافة السلم. وتشكل هذه الجهود في مجموعها اهم عوامل او بذور التغيير المنشود. وقد تنامت هذه الجهود مؤخرا مع تنامي نشاطات اليونسكو والمؤسسات الثقافية الاخرى ذات الصلة بثقافة السلم. ويمثل هذا اللقاء والذي تكرم مشكورا بتنظيمه كرسي بن علي لحوار الحضارات والاديان دليلا، نعايشه الان، على تنامي الجهود الجارية لدعم ثقافة السلم في اكثر من مكان في هذا العالم الذي هو في حاجة ماسة لها الان ربما اكثر من أي وقت مضى. ولابد من وقفة لتقييم وتقويم الجهود المشار اليها وثمارها تحديدا للايجابيات والسلبيات وبلورة للمعالجات والسياسات الانسب والاكثر فعالية.
على أن ما تفضل هذه المداخلة التطرق اليه هنا بايجاز، نرجو أن لا يكون مخلا، ليس هو المهمة المشار اليها انفا والتي تتعلق بالجهود التي تبذل لتمكين ثقافة السلم وانجازاتها، وانما هو ما تواجهه ثقافة السلم من اشكالات ثقافية تمثل بعض عوامل استمرار وتكريس الواقع القائم والذي تسوده ثقافة اللاسلم والعنف واعاقة جهود التحول الى ثقافة السلم.
وعموما، يصح القول بأن كل العوامل التي تعوق السلم وتخل به تساهم لدرجة او اخرى في اعاقة تمكين ثقافة السلم نظرا لان كل ما يدفع للاسلم والعنف هو مظنة تشجيع ثقافة العنف. والعوامل التي تعيق السلم وتدفع للعنف والصراع عديدة. وقد سبق التوضيح بان من اهم تلك العوامل العامل الثقافي.
ويفيد التأمل أن من اهم ما تنطوي عليه الثقافة السائدة، او العامل الثقافي، من اشكالات تعوق ثقافة السلم :
ـ شيوع ثقافة اللاسلم والعنف.
ـ وجود شبهات حول ثقافة السلم.
ـ شيوع ثقافة اللاسلم والعنف.
إن شيوع ثقافة اللاسلم والعنف من الوضوح بحيث يكاد يغني عن استعراض مظاهره وآثاره العديدة الدالة عليه والتي تأتي في مقدمتها ما يشاهد بوضوح من نزوع الاكثرين الى تحقيق اهدافهم واشباع غرائزهم بالقوة العنيفة، واحصاءات الحروب وحوادث الارهاب والعنف الاجتماعي، وتكاثر الجماعات المتطرفة، وسوء استخدام الموارد، والاستعدادات المستمرة لممارسة او مواجهة العنف كتكوين الجيوش والمليشيات والتكالب على الاسلحة.
ولعل السؤال الاساسي الذي يثيره شيوع ثقافة اللاسلم هو لماذا شاعت في المجتمع البشري ثقافة اللاسلم والعنف و ليس ثقافة السلم والرفق؟
من الواضح انه اذا كان الهدف هو الحد من ثقافة اللاسلم لتمكين ثقافة السلم اكثر فان معالجة السؤال السابق المعالجة السليمة تبدو امرا لابد منه لاستكمال اسباب تحقيق الهدف المذكور. ومع تأكيدنا على ان أي عمل ثقافي لا يستغني عن الجهد الفردي فان مما لا شك فيه أن المعالجة الافضل للسؤال المذكور تتطلب جهودا جماعية منظمة تعتمد المنهج التعددي ونأمل أن تبادر الى الدعوة الى مثل تلك الجهود والتنسيق بينها منظمة اليونسكو باعتبارها المنظمة الثقافية الدولية الاوسع نطاقا واوفر امكانات وموارد.
واذا كان لهذه المداخلة أن تشيرالى بعض النقاط التي قد يفيد التذكير بها بخصوص المعالجة المطلوبة للسؤال المذكور انفا فانها تذكر بـ :
ـ يبدو أن الانسان/المجتمع البشري، وخاصة في حالته البدائية او الغافلة، اقرب الى استعجال اهدافه ولو بالنهج اللاسلمي. وربما يعود ذلك اساسا الى التركيبة النفسية للانسان و/او العوامل البيئية. و لعل في ذلك ما يدفع الانسان/المجتمع لان يكون اقرب الى ثقافة اللاسلم والعنف منه الى ثقافة السلم.
ـ ان مختلف العوامل التي لها صلة بحالة الصراع والسلم لها ايضا صلة ما بالثقافة السائدة وتحديد طبيعتها السلمية او اللاسلمية . وهو ما يعني أن شيوع ثقافة اللاسلم يعود الى عوامل عديدة منها الثقافية وغير الثقافية.
ـ وفي اطار تركيز هذه المداخلة على الجانب الثقافي يمكن القول بانه ربما كان من اهم العوامل الثقافية وراء شيوع ثقافة اللاسلم والعنف في المجتمع البشري: 

1ـ توافر مصادر ثقافية لثقافة اللاسلم والعنف:
لعل الغالب في الانسان ثقافيا هو التقليد ومسايرة الثقافة السائدة و ليس ابداع او اتباع ثقافة مغايرة او خاصة وهو ما ترجحه ظاهرة انقسام العالم الى مجموعات جغرافية تسود في كل منها ثقافة معينة يميل افراد المجموعة الى التطبع بها واستثقال وربما مناهضة ما سواها.
ومن هنا تكون لطبيعة المصادر الثقافية المتوافرة لدى المجموعة المعنية اهميتها في تحديد الثقافة السائدة فيها. ويلاحظ بهذا الصدد توافر او شيوع مصادر ثقافية عدة قد تختلف قوة حضور كل منها من مجموعة ثقافية الى اخرى ولكن يجمع بينها كلها أنها تمثل مصادر محتملة لثقافة اللاسلم والعنف في تلك المجموعات . وتتضمن اهم تلك المصادر:
- نصوص نافذة/حاكمة:
الغالب في هذه النصوص انها تكون ذات طابع ديني، بغض النظر عن مدى ثبوتها للدين المعني، الا انها تتضمن ايضا نصوصا غير دينية من مثل بعض النصوص القبلية الموروثة في المجتمعات القبلية والنصوص التي تحتكم اليها بعض الجماعات المنظمة غير الدينية. ويجمع بين سائر هذه النصوص انها تتمتع بقدر او اخر من القدسية لدى اصحابها وبالتالي، تمارس قدرا مماثلا من النفوذ والسلطة عليهم. ولعل اهم هذه النصوص النافذة هي النصوص الدينية اليهودية والمسيحية والاسلامية والتي قد يفهم من بعضها - كما يذهب اليه البعض - انها تحرض او على الاقل تبرر اللجوء للعنف ولو ابتداء من اجل اهداف معينة. ومن المؤكد أن هذه النصوص لعبت دورا اساسيا في الحروب الدينية والطائفية العديدة التي شهدها التاريخ البشري. وكانت ومازالت هناك دائما جماعات واحيانا دول تتبع هذه الديانات الثلاث تمارس او تبرر العنف اما مدفوعة بمفاهيمها وتفاسيرها لتلك النصوص واما موظفة لها لتبرير عنفها الذي دفعتها اليه دوافع اخرى غير تلك النصوص.
ـ نظريات:
والمعني بها مجموعة النظريات التي تكرس الصراع والعنف في المجتمع تحت دعاوى علمية. ولعل من اقدمها واشهرها النظريات العرقية والعنصرية التي تقسم الجنس البشري الى اجناس متقدمة واخرى متخلفة وتعطي الاولى حق الهيمنة ولو بالعنف على الاخيرة، ونظرية الصراع الطبقي التي ركز عليها الفكر الماركسي. واذا كانت النظريات العرقية دعمت العنف الاستعماري المعروف فان نظرية الصراع الطبقي شجعت الكثير من الجماعات والدول على تبني العنف الذي عانت منه دول كثيرة وخاصة في النصف الثاني من القرن الماضي.
ـ مفاهيم:
احيانا تسيطر على البعض، افرادا اوجماعات، مفاهيم لا تبدو مستمدة من نصوص نافذة
او نظريات صراعية معينة ولكنها تدفع بشكل مباشر او غير مباشر الى تبني العنف
او اقراره في سلوكه. ومن تلك المفاهيم مثلا اعتقاد بعض الاباء او المعلمين أن استخدام العنف هو الوسيلة الانسب والاجدى في تربية الابناء او تعليمهم، وظن بعض الحكام أن الضغط والعنف يكفلان استمرار حكمهم اكثر من الديمقراطية والرفق، وتقليل البعض من اهمية التربية الخلقية والروحية في الحد من العنف الاجتماعي والعنف مع الذات وتأمين السلم عموما، والمفهوم الشائع للعنف والذي يكاد يحصره في العنف المادي من الغير
او عليه.
ـ التنشئة:
من المنظور الثقافي، التنشئة عملية ينقل كل جيل بواسطتها الى الجيل اللاحق موروثه الثقافي، ومن هذا الجانب تمثل التنشئة عاملا اساسيا من عوامل استمرار الثقافة السائدة وما تتضمنها من اتجاهات اما تكرس التغيير و الابداع والسلم واما تكرس الجمود والتقليد والعنف. وبما أن الثقافة السائدة او الشائعة حاليا هي، كما تم التوضيح انفا، ثقافة اللاسلم الممزوجة بثقافة العنف فان التنشئة تعد بوضعها السائد حاليا مصدرا اساسيا من مصادر استمرار وتكريس ثقافة اللاسلم والعنف. ومع أن عملية التنشئة تميل حاليا لان تصبح تنشئة عالمية او ـ بدقة اكثرـ غربية الصبغة بسبب الدور المتزايد للاعلام الدولي (الغربي) وتنامي حركة العولمة عموما فان ذلك وان كان من المرجح أن يساهم في اضمحلال او زوال بعض الاوجه المحلية الطابع من ثقافة اللاسلم والعنف (مثل الثار القبلي وربما العنف البدني الاسري/ المدرسي مع النشء والاستبداد السياسي) الا ان من المتوقع ايضا أن يحمل معه اوجها اخرى من ثقافة اللاسلم والعنف كمفاهيم التنشئة التي تكرس تضخيم الذات (الفردية الزائدة) وتقلل من التربية الخلقية والروحية وتتساهل مع تعريض النشء بشكل مستمر لمشاهد العنف وغير ذلك من المفاهيم والسلوكيات التربوية التي تمثل بعض بذور العنف الاجتماعي المتنامي في الغرب. 

شبهات حول ثقافة السلم:
بالاضافة الى اشكالية شيوع ثقافة اللاسلم والعنف وميل هذا الوضع للاستمرار بسبب توافر او استمرار مصادر وآليات اعادة انتاج ثقافة اللاسلم والعنف والتي اشرنا الى بعضها انفا، تواجه الجهود التي تبذل حاليا لنشر ودعم ثقافة السلم، وخاصة في بعض المجتمعات بما فيها مجتمعنا العربي - الاسلامي، جملة من الشبهات التي تثار احيانا بهدف الاستفسار والاطمئنان وتداول الرأي واحيانا وربما غالبا بغرض التشكيك في تلك الجهود واعاقتها. ومن تلك الشبهات:
- ثقافة السلم ثقافة استرضائية:
تذهب هذه الشبهة الى أن الدعوة الى ثقافة السلم في المجتمع الاسلامي ما هي الا دعوة يهدف اصحابها الى استرضاء الغرب الذي يتهم المسلمين بالارهاب ويصم ثقافتهم بانها ثقافة عنف ويسعى الى حملهم على تغيير تلك الثقافة كوسيلة من وسائل اجتثاث مقاومة المسلمين لمحاولات الهيمنة الغربية.
ـ ثقافة السلم ثقافة انهزامية:
تذهب هذه الشبهة الى أن الدعوة الى ثقافة السلم دعوة للاستسلام والذل ولا تعدو أن تكون في احسن الاحوال والظنون انعكاسا لما اصاب دعاتها من خور وضعف وانهزام امام الهجمة الغربية الشرسة على الامة العربية الاسلامية.
ـ ثقافة السلم ثقافة تتعارض مع أحكام الإسلام:
يرى أصحاب هذه الشبهة، بعضهم عن اقتناع وبعضهم تبريرا لسلوكياتهم العنيفة التي يمارسونها لاهداف شتى، أن الدعوة للسلم وثقافة السلم تتعارض مع نصوص الشرع والتي يرون انها تؤسس العلاقة بين المسلم والاخر غير المسلم ليس فقط على الحرب وانما على الارهاب ايضا وتؤسس العلاقة بين المسلم والمسلم الاخر المخالف على مشروعية استعمال القوة/اليد ضده . و يورد اصحاب هذه الشبهة مجموعة من النصوص التي يرون انها تدعم مزاعمهم.
ـ عدم جدوى الدعوة للسلم و ثقافته في عالم تحكمه القوة:
يشير أصحاب هذه الشبهة إلى الاستبداد السياسي في دول إسلامية والاستبداد الغربي على الساحة الدولية وغياب الديمقراطية الحقيقية والحوار الندي واليات التفاهم والحل السلمي للاختلافات سواء على مستوى السياسات العامة الوطنية او مستوى السياسات والمحافل الدولية ليبنوا على ذلك أن من غير المجدي الدعوة الى السلم وثقافته في عالم لا تتوافر فيه البيئة العملية السليمة ولا مع أطراف مهيمنة لا تؤمن بالسلم ولا تدين بثقافته، وأن الدعوة للسلم وثقافته في مثل هذه الظروف لا تعني غير تكريس الواقع القائم بكل ظلماته وجوره وسلبياته.
من الواضح أن من الشبهات السابقة وأمثالها ما تستبطن رمي دعاة ثقافة السلم بالسذاجة والافتقار للواقعية وقد لا تخلو بعضها من اتهامات مبطنة بموالاة الأعداء، ومن شأنها كلها تنفير الجماهير من دعوة ثقافة السلم بتصويرها استرضاء للأعداء وضعفا وانهزامية وعبثية وخروجا عن الإسلام. ولاشك أن هناك الكثير من الممارسات المحلية والغربية التي توفر مناخا مناسبا لانتشار مثل هذه الشبهات.

* رئيس مؤسسة المنصور الثقافية للحوار بين الحضارات