الإعلام كقوة سياسية: كيف تُشكِّل الوسائط الإخبارية وعي النخبة الفكرية في اليمن
الجمعة, 26-ديسمبر-2008
سقاف عمر السقاف - في ظل التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الإعلام والاتصال السمعية والبصرية، بات الإنسان في كل مكان يستقبل المعلومات التي تؤثر عليه في كل لحظة وتشكل إلى حدٍ كبير رؤيته ومدركاته تجاه الأحداث والقضايا التي تعد بصورة أو بأخرى جزءاً من اهتماماته، وبالتالي فإن دراسة الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام في بلورة المعارف والاتجاهات لدى الرأي العام نحو القضايا والمواضيع المختلفة لا شك أنها مسألة مهمة، إذ أشار الباحثون الذين اهتموا بدراسة العلاقة بين حجم التغطية الإخبارية للأحدث والقضايا المتنوعة بوسائل الإعلام وتقييم الجمهور لهذه القضايا، أشاروا إلى ضرورة تخطّي التركيز والاهتمام بدراسة حجم التغطية الإخبارية للمواضيع المثارة إلى دراسة القضايا ذاتها وكيفية معالجة وسائل الإعلام لها.
وفي هذا الإطار، جاء كتاب "القنوات الإخبارية والراديو الدولي: دراسة في الاتصال السياسي" للباحث اليمني الدكتور بشار عبدالرحمن مطهر، كواحدٍ من الكتب القليلة والمهمة التي أحاطت بمسألة دور وسائل الإعلام في تشكيل معارف الناس في العالم العربي وتحديداً النخبة الفكرية اليمنية في القضايا السياسية من مختلف الجوانب وبصورة علمية ومنهجية صارمة. الكتاب، في الأصل، عبارة عن أُطروحة دكتوراة منحت من قسم الإذاعة والتلفزيون بكلية الإعلام في جامعة القاهرة مع مرتبة الشرف الأولى، وقد أشادت اللجنة التي ناقشت أُطروحة الدكتوراه المعدة من قبل الباحث بشار مطهر، ووصفتها بأنها نموذج للبحث الشامل والمتكامل وهي قيمة علمية جديدة على المستويين العلمي والمنهجي ستضاف إلى المكتبة العربية في مجال الدراسات الإعلامية.
والواقع أن الدكتور بشار مطهر مشهودٌ له بالكفاءة والتميز، إذ أنه حصل على درجة الماجستير في الإعلام بتقدير امتياز في العام 2004 من نفس الكلية التي حصل فيها بعد أقل من ثلاث سنوات على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى، وقبل ذلك أُختير مطهر من قبل أكاديمية الشرق الأوسط بمصر كأول باحث يمني ينظم إلى أعضاء هيئة التدريس بالأكاديمية وإلقاء المحاضرات فيها.
ويبدو أن الدكتور بشار مطهر قد تشرب أساسيات الإعلام منذ صغره -كيف لا- وهو نجل الإعلامي القدير عبد الرحمن مطهر، الذي قدم للإعلام اليمني الكثير وساهم طوال العقود الماضية في بناء وتطوير العمل الإعلامي في اليمن.
وبالعودة إلى محتوى الكتاب، فإن المؤلف قسمه إلى أربعة فصول، الأول اهتم بعرض مفصل لنظرية تحليل الأطر الخبرية حيث بدأ بتعريفها واستعراض التطور التاريخي لها، وأوضح تطبيقاتها في مجال الإعلام السياسي بالإضافة إلى معرفة آليات عمل الأطر الخبرية ووظائفها وأنواعها ومحددات تشكيلها للقضايا السياسية وتأثيرها على معارف واتجاهات الجمهور، وفي الفصل الثاني قام الباحث بمراجعة التراث العلمي السابق للدراسات المرتبطة بنظريتي الأطر الخبرية والاعتماد على وسائل الإعلام والدراسات المتعلقة بالنخبة والقضايا السياسية المرتبطة أساساً بموضوع الدراسة.
أما الفصل الثالث فقد عرض المؤلف فيه المشكلة البحثية للدراسة المرتبطة بنظريتي الأُطر الخبرية والاعتماد على وسائل الإعلام، كما استعرض الإجراءات المنهجية وتحديداً المنهج المستخدم في الدراسة والأدوات التي استعان بها في جمع البيانات سواءً الخاصة بالمضمون أو تلك المتعلقة بالنخبة وإجراءات الصدق والثبات في طرق معالجة البيانات إحصائياً، بالإضافة إلى نتائج الدراسة التحليلية للنشرات الإخبارية بقناتي الجزيرة والعربية، وإذاعتي لندن وسوا الناطقتين باللغة العربية، وتحليل أطر المعالجة الخبرية للقضايا السياسية البارزة بوسائل الإعلام ونتائج الدراسة للنخبة التي ترصد الأثر المعرفي والوجداني التي تُحدثها وسائل الإعلام محل الدراسة.
أما الفصل الربع فقد خُصص للتحقق من فروض الدراسة المتعلقة بنظريتي الأُطر الخبرية والاعتماد على وسائل الإعلام والمتغيرات الأخرى التي تُؤثر في تشكيل المعرفة والاتجاه لدى النخبة الفكرية في اليمن.
وهذه هي أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة:
أولاً: الدراسات التحليلية الكيفية فيما يخص تعاطي وسائل الإعلام مع القضايا محل الدراسة وهي:
1- قضية الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة: اختلفت وسائل الإعلام محل الدراسة في تناولها الخبري لقضية الانسحاب الإسرائيلي لقطاع غزة، حيث أبرز الإطار الخبري لقناة الجزيرة أن الانسحاب الإسرائيلي من القطاع خطوة إيجابية لصالح الإسرائيليين والفلسطينيين، في حين أبرز الإطار الخبري لقناة العربية أن الانسحاب من غزة كان من جانب واحد وهو الطرف الإسرائيلي ودون اتفاق مع الفلسطينيين، وأبرز الإطار الخبر لإذاعة لندن أن الانسحاب الإسرائيلي يعد تطوراً إيجابياً لصالح الفلسطينيين، وأظهرت الدراسة أيضاً عن وجود توافق بين وسائل الإعلام السابقة في إسناد المسؤولية للأسباب المحددة التي أدت إلى الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، حيث تبنت إطار المقاومة وإرادة صمودها والتي كانت الدافع الحقيقي وراء الانسحاب الإسرائيلي، إلا أن وسائل الإعلام حسب ما تشير الدراسة اختلفت مجدداً في إسناد المسؤولية للأسباب العامة التي أدت إلى الانسحاب الإسرائيلي، إذ ركزت قناة الجزيرة على إطار الجوانب الأمنية التي كانت وراء قرار الانسحاب في حين ركزت قناة العربية على إطار سياسة توسيع الاستيطان في مناطق أخرى كالضفة الغربية كسبب في الانسحاب، أما إذاعة لندن فقد ركزت على إطار الجوانب السياسية والأمنية والدولية المتعلقة بإسرائيل والتي كانت وراء قراراها بالانسحاب من قطاع غزة.
2- قضية مسودة الدستور العراقي: اتفقت قناة الجزيرة وقناة العربية في تناولها الخبري لقضية الدستور العراقي حيث أبرز الإطار الخبري للقناتين أن الولايات المتحدة الأميركية هي القوة الضاغطة على الأطراف العراقية لإنجاز مسودة الدستور في موعدها. وبالمقابل، اختلف هذا الإطار مع الإطار الخبري الذي وضعته إذاعة لندن حيث أبرزت الإذاعة أن القوى العراقية هي التي تضغط باتجاه مسودة الدستور العراقي في الموعد المحدد باعتبار ذلك يخدم المصالح العراقية.
3- قضية الملف النووي الإيراني: اختلفت وسائل الإعلام محل الدراسة في تناولها الخبري لقضية الملف النووي الإيراني، حيث أبرز الإطار الخبري لقناة الجزيرة بأنها أزمة نووية بين الولايات المتحدة الأميركية وأوربا وإيران، نشبت بسبب استئناف إيران لنشاطها النووي وتصلب موقفها بخصوص عدم إيقاف ذلك النشاط، أما الإطار الخبري لقناة العربية أبرز أزمة الملف النووي الإيراني بأنها صراع سياسي بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، وأن أميركا تريد تعطيل الأنشطة النووية الإيرانية رغم إصرار إيران بأحقيتها في امتلاك التكنولوجيا للأغراض السلمية، كذلك أبرز الإطار الخبري لإذاعة لندن أزمة الملف النووي بأنها أزمة نووية ذات طابع سياسي نشبت بين واشنطن وأوربا وطهران ستقود إلى أزمة دولية تتحمل مسؤوليتها إيران، فضلاً عن أن أميركا وأوربا وسيطان عادلان يسعيان إلى إيجاد الحلول الإيجابية لتجاوز هذه الأزمة.
ثانياً: الدراسة المسحية فيما يخص اتجاهات النخبة اليمنية نحو القضايا السياسية:
أُجريت الدراسة المسحية للجمهور على 200 مبحوث من أفراد النخبة الفكرية اليمنية من الأكاديميين والإعلاميين والأدباء والشعراء في العاصمة صنعاء، وقد تمثلت أبرز النتائج فيما يلي:
- ارتفاع نسبة مشاهدة القنوات الفضائية لدى النخبة الفكرية اليمنية (عينة الدراسة) حيث بلغت 100% سواءً تم ذلك بصفة منتظمة دائما وذلك بنسبة 68 % أو بصفة التعرض أحياناً بنسبة 28.5% أو بصفة التعرض نادراً بنسبة 3.5 %.
- جاءت قناة الجزيرة في الترتيب الأول بفارق كبير في ترتيب المبحوثين وتفضيلاتهم للقنوات التي يحبون مشاهدة برامجها بصفة عامة، يليها قناة العربية، ومن ثم الفضائية اليمنية، وقناة m b c في الترتيب الرابع.
- جاءت النشرات الإخبارية في مقدمة البرامج التي تحرص النخبة الفكرية اليمنية على متابعتها في القنوات الفضائية العربية حيث بلغت النسبة 94.5% من إجمالي المبحوثين، يليها البرامج الإخبارية في المرتبة الثانية، ثم البرامج الثقافية والعلمية، أما البرامج الفنية والرياضية فقد جاءت في الترتيب الرابع والخامس على التوالي؛ ويعيد الباحث سبب ذلك إلى أن النخبة الفكرية في اليمن تميل بشكل عام إلى المضمون الجاد والمتمثل في متابعة النشرات الإخبارية. وقد بينت الدراسة من خلال بيانات الجدول رقم 49 أن الدوافع لدى النخبة الفكرية اليمنية لمشاهدة النشرات الإخبارية هو مراقبة البيئة والاهتمام بمعرفة الأحدث والقضايا المختلفة في العالم والوطن العربي عموماً، والدافع الذي يليه هو الحاجة للتوجه والذي يتضمن رغبة المبحوثين في تكوين رأي حول المشكلات الموجودة في العالم. ومن جهة أخرى، كان أحد دوافع مشاهدة النخبة الفكرية اليمنية للنشرات الإخبارية هو دافع مراقبة البيئة والتوجهات حول الأحدث والقضايا المحلية اليمنية، ما يعني أن النخبة الفكرية في اليمن تراقب الأحداث والقضايا المتعلقة بالبيئة اليمنية من وسائل إعلامية أخرى.
- جاءت إذاعة لندن كأفضل إذاعة دولية على الإطلاق لدى النخبة الفكرية اليمنية.
- بينت الدراسة ضعف اعتماد النخبة الفكرية اليمنية على وسائل الإعلام اليمنية سواءً التلفزيون أو الإذاعة أو الصحف المحلية في الحصول على المعلومات المتعلقة بالقضايا السياسية البارزة.
- جاءت قضية الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في الترتيب الأول لدى المبحوثين للقضايا السياسية البارزة التي وردت بالتغطية الإخبارية للقنوات الفضائية العربية والإذاعات الدولية "محل الدراسة"، ثم قضية الملف النووي الإيراني في الترتيب الثاني ثم قضية الدستور العراقي.
- بينت الدراسة وجود فروق دالة إحصائياُ بين الذكور والإناث من أفراد النخبة الفكرية اليمنية، من حيث تعرضهم للنشرات الإخبارية للقنوات الفضائية العربية واعتمادهم على القنوات الفضائية الأجنبية والإذاعات الدولية كمصدر للحصول على المعلومات المتعلقة بالقضايا السياسية البارزة، والفروق الدالة إحصائياً كانت لصالح الذكور.
في الأخير، لا يسعني سوى إيضاح أن هذه العرض الموجز للكتاب وإن حاول الإلمام بأهم أبعاد الدراسة إلا أنه لا يُغني أبداً، وخصوصاً بالنسبة للمتخصصين في مجال الإعلام، عن قراءته والاستفادة من القيمة العلمية الذي احتوته صفحات هذا الدراسة.


الكتاب: القنوات الإخبارية والراديو الدولي: دراسة في الاتصال السياسي
تأليف: بشار عبدالرحمن مطهر
الناشر: [المؤلف]، صنعاء
تاريخ النشر: 2008
عدد الصفحات: 453 صفحة