صورة العرب بين زمنين
الخميس, 27-مارس-2014
د . نسيم الخوري -

يتحوّل الإنسان العربي إلى متفرّج عاجز أمام شلاّل الصور الدموية المتدفقة إلى حياته . مشاهد لا تحجب لأنّ المتابعة صارت حاجة تتقدّم على الحاجات الست لتوازن الشعوب واستقرارها، أي الاطمئنان العاطفي والأمان الاجتماعي والشعور بالقوة والرضى عن الذات وصلابة الانتماء وتأمين التقدّم الحضاري . وتضعنا هذه المشاهد القاسية للتفتيش عن سلطات هذه الشاشة الطارئة في تاريخ العرب المسكونة بالتحريض والترويج للتجزئة والتخريب . ونتذكّر أوّلاً، الصور والنقوش الأولى التي منها اشتقّت الكتابة الهيروغليفية في مصر القديمة والتي يتجاسر الإخوان المسلمون على نسف رونقها وعظمتها يتحفيز من الغرباء . ونتذكّر ثانياً، صور الكتابات المسمارية في بلاد ما بين النهرين . وقد نتذكّر ثالثاً، العلاّمة ابن منظور في مجلّداته "لسان العرب" التي جاءت بصيغة المفرد لا الجمع، بهدف الوحدة اللغوية والدينية والثقافية والحضارية للعرب . ونتذكّر رابعاً كيف أزالت الكاثوليكية معالم الفاشية والنازية ثمّ تحوّلت الصهيونية إلى تفريغ المسيحية من معانيها وقيمها السامية، وجعلتها وكأنها من دون دسم لتتعاون مع الغرب على دحض الإلحادية ومنظومة الاتحاد السوفييتي منذ نهاية الحرب العالمية الثالثة . وتزداد المرارة، خامساً، حيال هذا الحقد المستجدّ المتعاظم الذي يرتدّ على الإسلام والمسلمين آخذاً بتشويهاته عظمة تلك التواريخ والبقاع المشرقية الكبرى التي منها تدفّقت الحضارات نحو الدنيا . إنّ أقسى ما نعاينه وستتذكّره أجيالنا القادمة هو هذا الإمعان المستورد لبعضنا ببعض .
يقودني هذا الواقع المؤلم إلى مصطلح الصورة المنفوخة بالحروب واللامبالاة والتلذّذ بمنظر الدماء والأشلاء والاحتماء بالمغالاة من ممتهني بثّ الصور وعاشقي البؤس العربي والتخريب . وكأنّنا نرتمي متأملين الفروقات بين ذكرياتنا المجيدة والصور الكوارثية التي تغمر حاضرنا .
قد تكون الصورة محطّة استبدادية معاصرة تعود إلينا ونحن من ولّها بعد محطتين أساسيّتين قطعهما البشر هما أولاً، مبدآ الحياة والموت ثمّ استبدادية الزمان أو منذ اختراع الساعات الفلكية، حيث لم يتمكّن أحد الفرار من قفص الوقت بالساعة والدقيقة والثانية حتّى صار بعضنا يردّد كما الغربيون بأنّ الزمان هو المال:Time is Money .
الإخوان والإرهابيون يخرجون في "ثوراتهم" من رهبة الموت الطبيعي أي من عظمة الحياة إلى مراتب اللذّة في تفجير الجسد والعالم . ويخرجون من مفاهيم الزمان كما يخرجون من مفاهيم التاريخ بمعناه الحضاري والديني القيمي . أصبح زمانهم مغمّساً بالموت ولا وقت خاصّاً لديه، أوهو لا يأخذ وقته العاقل للتقرير في ما هو فيه، ولو أن الجدل والتنابذ والصراعات والانقسامات تشغله وتأخذ طابع الخلافات المذهبية في التفكير أو التفسير أو السلوك الذي يتعاظم وينذر بزلازل غير متوقّعة . المهم متعة إلغاء الآخر ومتعة رؤية صورة الإلغاء عبر الشاشة، مهما قست باسم الغرابة في فهم الدين . يسهل على أيّ منّا التنبّه إلى تحوّلات السلطة على مستويات العائلة والوطن والمذاهب والمؤسسات والأحزاب والدفاعات الوطنية والقومية المحكومة اليوم أكثر فأكثر بالصور والشاشات، وهذه تعدنا بفواجع المستقبل النفسية والتربوية والسلوكية، وهي ستكشف الأغطية عن المخاطر التي تنتظر إعادة بناء الشخصيّة العربيّة والتماهيات المرضية المقبلة بين الأهل وأبنائهم والدول ورعاياها، والأفراد والمجتمعات والسلطات بشكل عام . هل ننبّه هنا إلى أنّ أجيالنا الشابة باتت مشابهة كثيراً، بالمعنى القومي، لأجيال التقنيّات الاتصالية التي لا تعيش كثيراً، لكنّها لا تعيش إلاّ إذا ألغى بعضها بعضاً متوهّمةً تحقيقها لصور المعاصرة الدائمة للإنسان الجديد الذي يرضي نهم الدول الكبرى؟ هذا ما نعاينه في سلوك كثير من الأفراد الانتحاريين الذين يقاتلون ويقتلون أو يقودون عرباتهم الفارهة إلى الموت، كما نعانيه في سياسات الدول التي لا تكاد تبين على الخارطة العالمية في كيديتها ومكابرتها عندما تنصاع للآخر الغريب فتمدّ مساحاتها وطاقاتها للإيقاع بالدول الكبرى تحقيقاً لهوّاماتها الكثيرة ولموتها المحتمل .
قد يسأل واحدنا: هل يمكن كبح جماح شاشة عربيّة متفلّتة من كلّ مسؤولية باسم مصطلحات مثل الديمقراطية والحريّة؟
لقد حاولت أوروبا قبلنا وهي تتحضّر لوحدتها من تحصين ساحاتها الداخلية وهويات بلدانها المتنوّعة، فالتفتت إلى مخاطر الشاشات كأولوية، وجهدت ألمانيا لضبط الصورة التي تمرّ من بلدٍ أوروبي إلى آخر من دون احترام لجار أو ثقافة أو تنسيق معه وفشلت إلى حدّ كبير، وكان الحلّ بإنشاء قناة أوروبية موحّدة هي ال A .R .T .E . ، التي قد ترضي ببرامجها الجميع، وهي في الواقع لم ترض أحداً في الوقت نفسه . نحن العرب نكابد زمن الصورة المماثل الذي يسفك دماءنا ويعكسها للعالم، وهو ما يستدعينا إلى اتّحاد عربي إعلامي يحدّ من حريّات الجزر الإعلامية، لا لوقف النزف والانحدار، بل لتلمّس بعض المسؤولية تجاه مستقبل أجيالنا، بدلاً من ألعاب الحريّة والديمقراطية البهلوانية في أزمنة الثورات والمستوردات ولملمة قتلانا والجراح .
هي دعوة أكاديمية تحض على استضافة خبراء الإعلام ونجوم الشاشات لتناقش على الهواء مخاطر الشاشات ومسؤولياتها في صيانة المستقبل والأجيال العربيّة .


*. نقلاً عن صحيفة الخليج الاماراتية.