التعاون الثقافي العربي.. الواقع والمأمول.. جزر منعزلة ومخارج ممكنة
الجمعة, 07-مارس-2014
معاذ بني عامر -


تمهيد:

رغم بؤس الواقع الثقافي العربي، والانقطاعات الآنية، ليس فقط على مستوى الجغرافيا، إنما أيضاً على مستوى التخصّصات والمرجعيات، التي تشبه الجزر المنعزلة أحيانا، التي لا تستفيد من تلاقح خبراتها وأفكارها، وهو ما أفضى إلى تأزمَّات ثقافية كبرى، إلا أنَّ هذه الدراسة تنحاز للأفق المستقبلي، والاحتمال المُؤكَّد بانقشاع العتمة وتبدّدها.

إنّ الانطلاق من معاينة هذا الواقع، لا يعني بحالٍ من الأحوال التسليم به، والإفضاء إلى مُسلّماته والارتهان إليها، فالواقع ليس قَدَرَاً ثابتاً لا مجال لزحزحته، إنما هو مرهون بالإرادة الإنسانية ومقدرتها على تفكيك أوعيته وتشريحها، وضخّ دماء جديدة فيها، بغية تغيير هذا الواقع ونقله من حالة القطيعة الآنية، إلى حالة التواصلية المستقبلية. ففي النهاية، ستفضي هذه الدراسة إلى ما هو مُرَمّم لبدايتها، مراعاة لـِ:

أولاً: تحرّي الصدق في معاينة المشهد الثقافي العربي، ومعرفة ما الذي يجري الآن، ليتسنى لنا بناء مستقبل إيجابي وفاعل.

ثانياً: قانون الأيض الوجودي هَهُنا، فالأمل مقابل الألم، والمستقبل المُشرق مقابل الواقع المُعتِم.

نوعان من الأمية في العالم العربي:

ثمة نوعان من الأمّية في العالَم العربي يحولان دون تفتّت الخطاب الثقافي العربي، وانتقاله من مرحلة الانتشار على مستوى الذوات الفردية، إلى مستوى الذوات الجمعية، بحيث يصبح الكلّ شريكاً في إعادة صياغة، ليس فقط المشهد الثقافي العربي، إنما كامل المشهد الوجودي العربي، على اعتبار أنّ المعرفة والثقافة شرط أساسي في أي عملية تنموية شاملة.

فمن معدلات القراءة المُتدنية التي يُمكن أن تلاصق الصفر على سُلَّم القراءات العالمية، والتي تبلغ بحسب الإحصاءات، حوالي 6 دقائق سنوياً (تخيّلوا الـ 6 دقائق وقد اشتملت على كتب المنهاج المدرسي والجامعي، وكتب عذابات أهل القبور وأهوال يوم القيامة..الخ)، إلى انتشار ثقافة الفضائيات التنويمية التهويمية، والتي تعمد إلى إبعاد الإنسان العربي عن واقعه وذلك بإحالته إلى عالَم ما وراء الطبيعة دفعة واحدة، وفصله عن سياقاته الحياتية وما يعتورها من مشاكل وإشكالات.

من ثمّ، إنَّ كتاباً ككتاب (تكوين العقل العربي) للمفكّر الراحل"محمد عابد الجابري" لاقى رواجاً كبيراً في العالَم العربي، إذ بلغت عدد طبعاته حتى العام 2011 عن مركز دراسات الوحدة العربية 11 طبعة، سيبقى في أدنى مستويات الانتشار، لأن انتشاره محصور أساساً بفئة بعينها. لنفترض جدلاً أنَّ كل طبعة وصلت إلى 5000 نسخة، أي ما معدّله 55 ألف نسخة في كامل طبعاته، فهذا الرقم يبدو عديم القيمة إذ ما قُورنَ بالـ ثلاثماية مليون عربي، إذ يمكن أن يكون نصيب كل مواطن عربي كلمة واحدة من كتاب الجابري، أو جملة أو سطراً في أعنف الحالات.

بعيداً عن أية مقارنات معرفية مع مجتمعات أخرى، كالمجتمع الياباني على سبيل المثال، أو حتى الصيني (هناك كوادر مؤهلة في الصين لترجمة كثير من الكتب التي تصدر باللغة الانجليزية بعد ثلاثة أيام من صدورها) فإنَّ الواقع العربي المعرفي، واقع مُؤلم ومُتهالِك وآيل للسقوط في أيّ لحظة على رؤوس أصحابه، وإذا كانت من دعوةٍ هَهُنا فهي تجاوز هذا الواقع –عبر دراسته أولاً وفضّ التباساته- إلى مرحلة البحث عن حلول فاعلة لأزمتي الأمّيتين: التعليمية و الثقافية، والتي سأعمل حالاً إلى التطرّق إليهما، ومدى تأثير ذلك على السياق الثقافي العربي في عموميته. ومباشرة سأبدأ بالنوع الأول من الأمية:



أولاً: الأمّية التعليمية والأفق المُغلَق

أشير أولاً، إلى أنَّ الأمية التعليمية لا تقتصر على عدم القدرة على القراءة والكتابة، بل تتعدّى ذلك إلى مرحلة عدم القدرة على فكّ التباسات الحياة، وفضّ الاشتباك بين ملابساتها.

الآن، أمكن رؤية أجهزة حاسوب متطوّرة في مدارس البادية الأردنية، أو أجهزة ipad مع طلبة مدارس الصحراء الليبية، لكن أين نحنُ من القيم البَعْدية للعملية التعليمية، قيم الحرية والعدالة والكرامة والفردانية، وما إلى ذلك من قيم حيّة ودفَّاقة.

ثمة سؤال إشكالي أبتدئ منه في معاينة الأمية التعليمية في العالم العربي، ألا وهو: ما هي الأسئلة الوجودية التي تُجيب عليها، أو على الأقل يجب أن تُجب عليها المناهج التعليمية العربية، عقب الانتهاء من الدرس المدرسي، وما هي الشخصية التي يفترض أن تصقلها هذه المناهج وتُهذّب مسلكياتها، بحيث تنتقل من مرحلة (الانفعال) بما تقرأ إلى مرحلة (الفعل الحضاري)، عبر المساهمة مساهمة حقيقية في ممارسة عمليات الأيض الثقافي بشكل دائم ومستدام، بما يمنح الذات حضوراً فاعلاً ومستمراً في الشأن العام.

تعالوا نُعاين الواقع العربي، بصفته إفرازاً طبيعياً للشخصية العربية، من خلال محور:


* الديكتاتور العربي والمسار العبودي للذات الفردية والجمعية

المُفترض –نظرياً كمرحلةٍ أولى، وعملياً كمرحلةٍ ثانية- أن تُفضي المعرفة إلى الحرية والتحرّر من أي شيء من شأنه أن يضرّ بالمسلك الصحيح للذات الفاعلة، لكن الحاصل في العالم العربي عكس ذلك تماماً، فالشخصية العربية غير مستقلة بالمرة، فيما يتعلق بشؤونها ليس فقط الدنيوية، إنما أيضاً الأخروية. فهي لا تملك القرار لتحديد مصيرها لا في هذا العالَم، ولا في العالَم الآخر.

إنّ الدرس التعليمي الذي يتلقاه الطالب العربي، مبدئياً في المدرسة ولاحقاً في الجامعة، هو درس تلقيني يعتمد على الحفظ والذاكرة، أكثر من اعتماده على العقلية النقدية.

في الأردن على سبيل المثال، لا مكان للدرس الفلسفي في مدارس وزارة التربية والتعليم، بمختلف المراحل التعليمية، وعلى مستوى الجامعات الرسمية والأهلية، فلا وجود للدرس الفلسفي إلا في قسم الفلسفة في الجامعة الأردنية [الجامعة الأردنية واحدة من عشرات الجامعات الحكومية والأهلية في الأردن]، والذي لا يكاد يتجاوز عدد طلابه أصابع اليد الواحدة. وهذا الشيء ينسحب تقريباً على جميع الدول العربية، وإذا ما حضر الدرس الفلسفي، فإنه يحضر في المرحلة الثانوية كشيء ثانوي وليس كشيء أساسي تكويني لعقلية نقدية تحليلية.

لكن ثمة حضور كبير وكثيف للدروس التلقينية، سواء أكانت في مجال الدين [حفظ السور القرآنية أو الأحاديث، وما إلى ذلك دونما فهم حقيقي لمعانيها وتآويلها] أو اللغة العربية [حفظ الأشعار والمقامات والأناشيد على سبيل المثال] أو التاريخ [حفظ عدد الغزوات والمعارك والشهداء، وما إلى ذلك]. وهذا كله يجري تحت وطأة الحفظ والتكرار لا أكثر ولا أقل، بعيداً عن أيّ سياق نقدي تفاعلي بين العقول، فأستاذ المدرسة لا يفتأ يُكرّر معلوماته التاريخية والأدبية والدينية..الخ، ابتداء من الصف الأول الابتدائي وانتهاء بآخر صف من صفوف المرحلة الثانوية.

ويمكنني أن أزيد هنا فكرة حول البحث العلمي العربي، فهو امتداد –بطريقةٍ أو بأخرى، إن لم يكن وعياً فعلى مستوى اللاوعي- لفكرة الحفظ والتكرار والدرس المدرسي التلقيني، فمثلاً قد يكتب الباحث العربي بحثاً حول (الميتافيزيقيا)، فيبرع بالنقل عن الآخرين حول هذا المفهوم الفلسفي، ومرة تلو المرة تجده يلتقط فقرة من هنا ومن هناك، ويحرص على التوثيق العلمي، ويقول لنا في خاتمة بحثه: نعم، إن (الميتافيزيقيا) مبحث أساسي من مباحث الفلسفة!.

وكأنه قد قطع رأس الزير سالم وأراح العرب من حرب ضروس لم تُبقِ ولم تذر.

هذي الإفرازات تجعل من الذات العربية ضمن سياقاتها الفردية، ذاتاً مُشوّشة من الخارج، مُدمّرة من الداخل، لأنها تتلقى معلومات جاهزة ومبتسرة ومُعزّزة لنهج مُعدٌّ سلفاً، من قبل الآخرين؛ والآخرين هم الجحيم بحسب مقولة سارتر، فهم بطريقة أو بأخرى ليس أغبياء، بل من الذكاء بمكان، فالسياسة التي يتبعونها تقوم على فكرة استعباد هذه الذوات مدى الحياة، لذا يعمد إلى إنتاج مناهج تعليمية تساعد على تدمير الحسّ النقدي عند الذات الفردية، فالتفكّر في الوجود والتعقيب عليه من ثمّ، ومحاولة إدخال تعديلات عليه، لهي واحدة من ثمار العقل النقدي ابتداءً، لذا يحرص حرصاً شديداً على تغييبه عن الذات العربية، ليسهل التحكم بها وتمرير كل ما من شأنه الإبقاء عليها كما هي.

وواحدة من تجليات الدرس التعليمي العربي، وغياب العقلية النقدية هو التسليم المُطْلَق بالذوات الفردية الأخرى، والباسها لبوساً تقديسياً يصير الخروج عليه ليس خطأ دنيوياً فحسب، إنما خطيئة دينية أيضاً.

إنّ التراكمات المعرفية بصيغتها العربية أفضت إلى تفريخ شخصيات خائفة، حائرة، مُتردّدة، مُتوترة، مُستعبدَة، تؤمن بيقينيات زائفة، فالمعارف تتدفق بطريقة عمودية، لذا تأخذ طابعاً تصديقياً، تخديرياً، تنمويمياً، استسلامياً، إيمانياً، وإنْ بُنيت هذه المعارف في صيغتها الأساسية على تزييف الوعي ووعي زائف.



ثانياً: الأمية الثقافية والجُزُر المعزولة

ثمة سؤال مُتشعب في هذا المقام:

أولاً: ما الذي يعرفه المفكِّر العربي عن الموسيقي العربي، أو بصيغة أخرى: خارج إطار التخصّصية الضيقة، ما هو الدور الموسوعي الذي يضطلع به المفكِّر العربي، أو المثقّف على الأقل، لناحية خلق جسور تواصلية بين أكبر عدد من المثقفين متعددي المواهب والاهتمامات، لا سيما فيما يتعلق بإنجاز مشروعات ثقافية كبرى؟.

ثانياً: ما الذي يعرفه المُثقَّف العربي المشرقي عن المثقف العربي المغربي؟. ما هي الكتب التي يقرأها أهل المشرق لمؤلفين من أهل المغرب، والعكس بالعكس؟.

ثالثاً: ما الذي يعرفه المثقف العربي عن مصر خارج إطار طه حسين والعقّاد ونجيب محفوظ، وعن سوريا خارج إطار حنا مينة وعن لبنان خارج جبران خليل جبران و عن العراق خارج معروف الرصافي وبدر شاكر السياب وعن الأردن خارج تيسير السبول و عرار وعن فلسطين خارج محمود درويش وعن ليبيا خارج إبراهيم الكوني وعن المغرب خارج محمد عابد الجابري وعن الجزائر خارج مالك بن نبي وأحلام مستغانمي وعن الكويت خارج إسماعيل فهد إسماعيل وعن السعودية خارج عبد الله الغذامي وعن البحرين خارج قاسم حدَّاد وعن عُمان خارج سيف الرحبي وعن الإمارات خارج علي بن تميم، بينما دول مثل (الصومال) و (موريتانيا) تبدو مهجورة ومنسية مثل دول فلكورية لا تستحضر إلا للتأشير عليها، بصفتها موجودة على الخريطة وهامش الذاكرة الجمعية ليس إلا؟.

والسؤال الأكثر أهمية هَهُنا –في إطار التعاون الثقافي العربي- أينها تلك المشاريع الثقافية العربية الجماعية، التي تعكس تطوّراً وتقدما مشتركاً لذهنية عربية جمعية، تسعى إلى بلورة سياق حضاري جديد؟.

أحد إشكالات الخطاب الثقافي العربي، أنَّهُ لا زالَ –في الغالب الأعمّ- حبيس الجماجم؛ الجماجم الفردية، وإلى حدّ كبير –للآن- لم يتسنَّ له التفتّت في الجمجمة الجمعية لمجموع الأمة الكُلِّي. ففي النهاية، اجتراح الحالة الحضارية ضمن شرطها الثقافي، هو نِتاج جمعي للكُلّ، وليس للجزء. فالتعميم مطلب أُسِّي ضمن سياقات تفاعلية لا انفعالية، فليست عبقرية –تحت أي مُسمّى- أن تبقى المعرفة حبيسة الجماجم الفردية، فالنسق الحضاري ضمن شرطه الثقافي، يتطلّب تعييّناً –على أرض الواقع- للرؤى الفردية، بحيث تأخذ أحقيتها ضمن النسق الجمعي، بطريقة تكفل تحقيق نهضة جمعية، غير مقتصرة على فئة بعينها.

قد لا تكون مهمة الفيلسوف أنْ يُعمّم الإشكال الوجودي، بقدر ما عليه –بدءاً- أن يُفجّر الينبوع المُتواري خلف المنظور، عبر الحفر في الجذور والأساسات. ولكن الغائب –في العموم- في الحالة العربية هو التموضع داخل الجمجمة الفردية، بعيداً عن أي أفق جمعي. فالتعاون الثقافي بين مُدخلات العمل الثقافي هو تعاون إثني، تخصّصي، جزئي، تابوتي، مُصنْدَق، مُقتصر على ذوات مُبعثرة غير مُتجانسة. فَكُلٌّ يُغنِّي على ليلاه، وبالمرة لم تُفْضِ إرهاصات الفردية إلى تشكيل حالة تُنْزِل الحالة الثقافية الفردية من عليائها (الجمجمة الفردية) إلى حالةٍ ثقافية جمعية تمشي على الأرض (الجمجمة الجمعية)، عبر تعميم مُخرجات الجمجمة الفردية على الجمجمة الجمعية؛ فالمُدخلات من الأهمية بمكان، من حيث تحمل بذرة تكوينية. إذ تُوضع اللبنة الفلسفية إلى جانب اللبنة الموسيقية واللبنة الروائية واللبنة النفسية واللبنة الاقتصادية ... الخ، فيصار إلى إفاضة الماء الهاطل من أعلى الجبل ومن منابع متعددة إلى "وادي الأكوان" (بتعبير الطاو الصيني).

ولربما كانَ هذا الإرهاص إرهاصا انبنائياً تمظهرت تعيّناته نتيجة لعقلية إلغائية تُمارس نوعاً من الشوفينية السيكولوجية الذاتوية ساعة تدفع بأفكارها إلى التمظهر الخارجي. فالفيلسوف لا يرى –خارج إطار الفلسفة- حلَّاً لإشكال الأمة الحضاري؛ كذا عالِم الاجتماع؛ وعالِم النفس وعالِم الدين وهلُمَّ جرّا. ومن ثمّ فالاستنطاق الأخير التمظهري للخطاب الأُحادي هو تمظهر انطوائي بطريقةٍ أو بأخرى، فهو ينزح ناحية جماجم فردية، غير قادرة على التفتّت العبقري في الجمجمة الجمعية، بحيث تأخذ بُعداً تأويلياً –عبر تشظّيات لا نهائية- في الجماجم الأخرى، الجماجم خارج السياق التخصصي الضيق، بحيث تغدو –بالتقادم- الطروحات الفكرية على اختلافها، طروحات جمعية تستلهم روح الأمة كُلّها، بحيث تغدو قادرة –أولاً- على تخليق نطفة حضارية نقية قابلة للحياة، ومن ثمّ إمكانيتها على إنتاج مُنتج ثقافي عالمي قادر على إعادة بلورة الأطر الحضارية، بصفتها أطراً قابلة للتأويل إلى ما لا نهاية. بما ينسجم مع تعددية الجماجم المُبدعة وتجلّيها في المجموع الكُلّي.

ولربما أبرزَ هذا الإشكال عودةً إلى سؤالٍ إشكالي كان "بيلاطس البنطي" قد سأله للمسيح: "ما الحقيقة"؟. ولعلّ من أبلغ الإجابات التي أجابت عن هذا السؤال الإشكالي –وإنْ أتت في سياق مُغاير- هي الإجابة التي قدّمها الروائي العظيم "تولستوي" في رائعته (الحرب والسلم) ساعة قال: "في العالَمين؛ في مجموع الكون، تُوجَد الحقيقة"!.

خارج إطار الهلوسات الشخصية، للآن لم ينوجد شخص مَلَكَ الحقيقة النهائية، وبتَّ فيها بشكلٍ قاطع وعلى نحو لا رجعة فيه، بحيث غدت الحياة على يديه آخر المطافات الإنسية. ففي التجلّي الأخير لـِ "سقراط" كان قد اعترف بـِ "أنّه لا يعرف شيئاً"، فالمُجادِل العظيم خرَّ راكعاً أمام جهله المُقدَّس وهو يعبر إلى العدَم. حتى نبي الله؛ المسيح –وفي معرض ردّه على سؤال بيلاطس البنطي: "مَنْ أنت"؟- أجاب بأنَّه "شاهد على الحقيقة" ولم يدّعي امتلاكاً للحقيقة، فنبوّته لم تتشفّع له ليكون سيداً نهائياً للحقيقة.

وبرأيي أنّ هذا القصور الإنسي بإزاء الكمال المُطْلَق هو مِنْ مُكملَّات الوجود الإنساني في هذا العالَم، وتكبير لأفق الثراء وتصغير لنفق الأُحادية والقطيعة والأنانية. فالثراء الواسع في هذا الكون ينعكس تراتباً إيجابياً على مسألة التنوّع الإنساني، بما يقطع الطريق على أي استئثار –من قبل أي كائن بشري- بشيء بشكلٍ قاطع، ومن ثمّ مُنازعة حقّ الآخرين من المساهمة فيه، بما يُقوّض دعائم الثراء والتنوّع. انسجاماً مع الانوجاد الفردي ضمن سياقاته الجمعية، فالفرد فردٌ مُطْلَق بطريقة أو بأخرى، فيما يتعلّق بوجوده الأُسِّي في هذا العالَم، لناحية عدم المساس بحريته الشخصية، بطريقة تضمن له قول الحقيقة، أو المساهمة بالجزء المُناط به في الحقيقة البشرية المُطْلَقة، فوجوده وجوداً ضرورياً على نحو هام وحاسم، فالحقيقة متموضعة ضمن جمجمته الفردية، ولكنه يُساهم في بلورتها ومَظهرتها عيانياً بقدر اندماجه معها. شريطة أنْ لا يُؤخذ اندماجه هذا معها على أنه التمظهر الأخير للحقيقة المُطلَقة ضمن شرطها الإنساني، بطريقةٍ تقطع الطريق على غيره من الذوات الفردية الأخرى، لناحية المساهمة في جزء آخر من الحقيقة، بحيث تغدو –أعني الحقيقة- بالتقادم أكثر جلاءً واكتمالاً. عبر مُساهمات فردية لانهائية تُفضي إلى ثراء إنساني هائل في مختلف مجالات الحياة الإنسانية.

وهكذا، يقف المشروع الفلسفي بصفته تمظهراً عيانياً لحقيقةٍ متموضعة ضمن جمجمة فردية، إلى جانب المشروع الموسيقي –بصفته هو الآخر مساهمة فردية تعكس حقيقة جمعية لدى كثير من الناس-، إلى جانب المشروع الأدبي، بطريقة تجعل المشروع الفلسفي –على سبيل المثال- في خدمة المشروع الموسيقي، دونما إلغاء أو إقصاء لأيّ مشروعٍ على حساب الآخر. ففي نهاية المطاف، لا أحد يُلغي أحداً أو يُمارس بحقّه، وبحقّ مشروعه الإبداعي هدمَاً وتخريباً. ولا مشروع –ضمن سياق حضاري- يتفوّق على مشروع إلا ضمن سياقاته الإبداعية، ولا مشروع يعمل في معزلٍ عن مشروع آخر، بل الكل يُقاتِل على الجبهة الحضارية ضمن شرطها الثقافي، بطريقةٍ تسمح للمُدخلات الثقافية بالتشظّي والانتشار في المجموع الكُلّي للأمة، بحيث تغدو الحياة أكثر ثراء، عبر الاستفادة من مُخرجات الأفراد الإبداعية وتحويلها –عبر إعادة تدويرها- إلى انوجادات جمعية.

في الحالة العربية، ثمة تغييب –إلى حدّ كبير- لمُنطلقين أساسيين في عملية الانبناء الحضاري، أولهما: العمل الأحادي الإلغائي، فلا زال الفيلسوف على اعتقاده بأنَّ النهضة العربية في طريقها إلى الانتحار إذا لم يُؤخذ بمشروعه الثقافي ومساهمته الفلسفية أخذاً قاطعاً ونهائياً، بعيداً عن أية مشاريع أخرى. وهذا واضح من المشاريع الفردية، وعدم الركون إلى تعدّدية المشروع الواحد.

يقيناً، ستنتحر الحضارة العربية في حال أُخِذَ بمشروع ثقافي لفردٍ واحد من حيث هو المشروع الأوحد والوحيد القادر على إنقاذ الحضارة العربية من كبوتها الوجودية، فمهما بلغت عبقرية –فرد من الأفراد- إلا أن الروح الكلية للأمة، لا يُمكن أن تتمظهر تمظهراً كاملاً في شخصٍ واحد، فالتجلّي الفرداني الأخير هو تجلّ اندماجي ضمن تجلّيات فردية لا نهائية، وإلا لانتحر المشروع الإنساني الحضاري مع الأنبياء والرُسُل وأصحاب العقول الجبّارة، ولتوقفت الحياة عن دفقيتها الملحمية. ولكن الحاصل –عقب هذه التجربة الإنسانية العريقة- هو استمرار الدفقية في النسغ الوجودي للإنسانية.

وثانيهما: مُتعلق بعدم القدرة على تفتيت الخطاب الثقافي (وأنا هنا أضعُ النسبية نصب عينيّ ساعة أناقش هذا الإشكال المستعصي) ونقله من مرحلة الجمجمة الفردية إلى مرحلة الجمجمة الجمعية، فللآن لم يتم تحويل –على سبيل المثال وضمن معرفتي- مشروع فلسفي عربي إلى مقطوعة موسيقية، أو لم يتم استلهام النص القرآني–بعيداً عن المُنطلقات الوعظية الإرشادية الفقهية- في عمل سينمائي أو روائي، على أساس أن المشروع الفلسفي يستصعب على العقل الجمعي، لكن من السهولة بمكان إيصاله إلى الناس عبر الموسيقى أو الأدب أو المسرح...الخ.

لكن هذا ليس قَدَرَاً نهائياً لا يمكن كسر منطقه أو تغيير مساره إلى الوجهة التي تريد، ففي النهاية مسألة اجتراح إزاحة حضارية بالنسبة لنا نحن العرب، لا يُمكن أن تنطلق إلَّا ضمن مسار جمعي تتضافر فيه جهود الكل، بحيث يغدو الماء المُتجمع في قعر الوادي قادراً على تشكيل سدّ مائي كبير، يُشكّل معيناً ارتوائياً للبشرية جمعاء.


ثلاثة مقترحات: للخروج من النفق:

إنَّ حال الثقافة العربية الانقطاعية، ليس قَدَرَاً نهائياً لا يمكن زحزحته، أو هدم جدرانه.

إنه –كما أرى- أوهن من بيت العنكبوت، إذا ما توافرت الإرادات الفردية والجماعية، وفي سبيل ذلك سأقترح ثلاثة مقترحات من شأنها بلورة سياق تواصلي جديد، ولو عند حدوده الدنيا كمرحلةٍ أولى، فمؤكّد أن أية إزاحة أحوج ما تكون إلى التراكمات، ولربما شكّلت هذه المقترحات لبنات في جدار كبير.

المقترح الأول:

إنشاء مؤسسة بحثية متعددة الأغراض والمرجعيات، بحيث تتجاوز مرحلة القطيعة المعرفية، سواء على مستوى (المرجعيات) أو على مستوى (التخصّصات) أو على مستوى (الجنسيات). على مستوى المرجعيات بحيث تضمّ: السُنِّي، الشيعي، الإباضي، الليبرالي، العلماني، اليساري، غير المُتديّن...الخ. وهذا سيعمل على كسر حاجز الخوف بين أصحاب المرجعيات، فالاستقطاب الحاد –والذي أثرَّ سلباً فيما مضى على مجمل الحالة الثقافية العربية- سيتحوّل إلى تعاون مثمّر، وبناء. فالنقاشات والحوارات والجدالات التي كانت تحدث من وراء جُدُر وبنوايا مسبقة –بلغة علم النفس- لإسقاط الآخر سلفاً، ستجري في ظل مثل هذه المؤسسة علناً وفي وضح النهار، بحثاً عن الحقيقة لا بحثاً عن انتصارات شخصية زائفة. وعلى مستوى التخصّصات بحيث تضمّ: الفيلسوف، عالِم الاجتماع، عالِم اللاهوت، الموسيقي، المسرحي، الروائي، الشاعر...الخ. وهذا سيؤدي دوراً أشرتُ إليه –في مكان سابق من هذه الدراسة- مُتعلق أساساً بتفتيت الخطاب الثقافي، ومنحه بُعداً انتشارياً على مستوى الذهن الجمعي، فما استعصى من طروحات يتم تفتيته بأدواتٍ أقرب إليهم، ريثما يتم تأهيل الذهن كلّه، بحيث يصبح أكثر تشابكية وتعقيداً. فمثلاً فكرة "محمد أبو القاسم حاج حمد" حول (المُطْلَق) و (الأزل)، ستجد صعوبة إلى الذهن الجمعي في حال نُقلت بصورتها البِكر التي أوردها في كتابه (العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة)، لكنها قد تجد طريقاً إلى هذا الذهن أو –على الأقل- إلى جزء منه بشكلٍ مبدئي، في حال تمّ تحويلها إلى نصّ روائي أو نص شِعري. كذلك يمكن الاستفادة –كمثالٍ آخر- من رواية (الخبز الحافي) [أشير هَنا إلى أني اضرب أمثلة للتقريب لا أكثر] للروائي "محمد شكري" في صياغة أو إبداع مقطوعات موسيقية تُحاكي البنية الاجتماعية الفقيرة للطبقات المسحوقة في العالَم العربي.

وعلى مستوى الجنسيات، سيتم ترشيد السلوك الثقافي، ونقله من مرحلة الوطنيات إلى مرحلة اللغة، ففي نهاية المطاف، لن تتمكن الثقافة العربية من تقديم بديل حضاري إلى عبر اللغة العربية، وهذا يتطلب حشداً كبيراً لكلّ الطاقات الإبداعية في العالَم العربي، بحيث تتشكّل كتلة إبداعية –تُمثّل تكتلاً بشرياً هائلاً- من مختلف أقطار الوطن العربي، قادرة على دفع عجلة التقدّم ناحية الأمام، بما يخدم البديل الحضاري الأممي لا الوطني!.



المقترح الثاني

العمل على تطوير نهج جائزة البوكر العربية من خلال طباعة القائمة القصيرة في ذات الوقت في معظم الدول العربية، أي أن يتم طباعة الروايات الفائزة بالقائمة القصيرة في كل دولة عربية على حدة، أي أن تصدر ذات الطبعة من ذات الكتاب أو الرواية في نفس الوقت في عدّة دول عربية، دونما حاجة إلى انتظار إجراءات الشحن والنقل، وبهذا يتم انتشار الكتاب فوراً بعيداً عن أية معيقات جمركية.

وهذا العمل يستلزم دار نشر عربية كبيرة، لها فروع في معظم الدول العربية، ولنفترض جدلاً أن دار النشر هذه قد فتحت لها عشرة فروع –مبدئياً- في عشرة دول عربية، وتم طباعة 5000 آلاف نسخة من كتاب ما في كل دولة، أي أن الطبعة الواحدة ستكون 50000 ألف نسخة دفعة واحدة، وبهذا تتأكد الصيغة الجمعية للثقافة العربية بصفتها كتلة واحدة وقوية، تستند في مرجعياتها إلى اللغة لا إلى الوطن أو الحدود الجغرافية، وبالتأكيد سيساهم هذا في كسر الحواجز الثقافية بين العرب، إذ يصير من السهل على المثقف العربي التعرف على رفاقه في مختلف الدول العربية بسهولة ويسر.

ولربما هذا أتى هذا العمل أُكله في القريب العاجل، وأريد هنا أن ألفت النظر إلى أن رواية (ساق البامبو) للروائي "سعود السنعوسي" الفائزة بجائزة البوكر العربية للعام 2013 قد طُبعت 11 طبعة في غضون سبعة أشهر، ابتداءً من شهر أيار/ مايو من العام 2013 وانتهاءً بشهر تشرين الأول/ أكتوبر من ذات العام.

هذي بوادر جيدة جداً، فمقارنة بكتاب (تكوين العقل العربي) الذي انتظرَ ما يقارب الـ 30 عاماً حتى طُبع 11 طبعة، فإنَّ رواية (ساق البامبو) قد طبعت 11 طبعة في غضون سبعة أشهر. ربما معترض هَهُنا، لناحية انحياز القارئ العربي ناحية قراءة الرواية أكثر من قراءة الكتب الفكرية؛ ليكن!. ولكن ما أحدثته جائزة البوكر العربية من قفزة كبيرة في معدلات القراءة في العالَم العربي، فاق التصورات، ولو كان ثمة مسابقة للكتب الفكرية في العالم العربي، وخلق تنافسية بين المفكرين العرب، فمؤكّد –وبالتقادم- ستحقق نسبة مبيعات عالية، لا سيما إذا ما أُلحقت مثل هذا الجوائز بدار نشر كبيرة، تضمّ فروعاً في معظم الدول العربية.




*. نقلاً عن معهد العربية للدراسات.